بقلم/ د طارق ذكى
(وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)،[٤] وفي هذا الباب لفتة جميلة وهي قول الله (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ) أنهما قد كبرا عنده، وفي حاجة إليه ليرعى شؤونهما وليقضي حاجتهما، فلا يحل للابن أن يتأفف يوماً منهما. يقول أحد الأبناء : سئمت من أبي من صراخه من نقده من عتابه إذا دخل غرفتي ووجد المصباح مضاءً أو المروحة وأنا خارجها صرخ في وجهي: لماذا لا تطفئها ولم كل هذا الهدر في الكهرباء ؟ إذا دخل الحمام ووجد صنبور المياه مفتوحًا صرخ بعلو صوته: لم لا تحكم غلقه قبل خروجك ؟ إذا إستيقظ فى الصباح ووجد التلفاز مفتوحًا وبخنى ونعتنى بالإهمال لأننى لم اغلفه قبل أن أنام. دائما ما ينتقدني ويتهمني بالسلبية يعاتب على الصغيرة والكبيرة حتى وهو على فراش المرض لم يكف عن لومى ومعاتبتى. إلى أن جاء يوم الخلاص. اليوم الذي لطالما أنتظرته … اليوم سأجري المقابلة الشخصية الأولى في حياتي للحصول على الوظيفة المرموقة التى كنت أتمناها في إحدى الشركات الكبرى. وإن تم قبولي فسأترك هذا البيت إلى غير رجعة وسأرتاح من أبي ومن صراخه وتوبيخه الدائم ونقضه لي . إستيقظت في الصباح الباكر ولبست أجمل الثياب وهممت بالخروج فإذا بيدٍ تربت على كتفي عند الباب التفت فوجدت أبي متبسما وكأننى أشعر أنه يبتسم لى لأول مرة ورغم ذبول عينيه وظهور أعراض المرض جلية على وجهه إلا أنه قام من فراشه متحاملًا على نفسه كى يودعنى عند باب المنزل … ناولني بعض النقود وقال لي أريدك أن تكون إيجابيًا واثقًا من نفسك ولا تهتز أمام أي سؤال. تقبلت النصيحة على مضض وابتسمت وأنا أتأفف من داخلي حتى في هذه اللحظات يتعمد تعكير مزاجي حتى في أسعد لحظات حياتي يُملى عَلَّيا نصائحه. خرجت من البيت مُسْرعًا هربًا منه. واستأجرت سيارة أجرة وتوجهت إلى الشركة. وما إن وصلت ودخلت من بوابة الشركة حتى تعجبت …. فلم يكن هناك حراس عند الباب ولا موظفو إستقبال سوى لوحات إرشادية تقود إلى مكان المقابلة. وبمجرد أن دخلت من الباب لاحظت أن مقبض الباب قد خرج من مكانه وأصبح عرضة للكسر إن إصطدم به أحد. فتذكرت نصيحة أبي لي عند خروجي من المنزل بأن أكون إيجابيًا فقمت على الفور برد مقبض الباب إلى مكانه وأحكمته جيدًا من باب أن أكون أمينًا على ممتلكات الغير. ثم تتبعت اللوحات الإرشادية ومررت بحديقة الشركة فوجدت الممرات غارقة بالمياه التي كانت تطفو من أحد الأحواض الذي امتلأ بالماء إلى آخره وقد بدا أن البستاني قد انشغل عنه فتذكرت تعنيف أبي لي على هدر المياه فقمت بسحب خرطوم المياه من الحوض الممتلئ ووضعته في حوض آخر مع غلق يد الصنبور بعض الشئ حتى لا يمتلأ بسرعة إلى حين عودة البستاني. ثم دخلت مبنى الشركة وخلال صعودي السلم لاحظت الكم الهائل من مصابيح الإنارة المضاءة ونحن في وضح النهار فقمت لا إراديًا بإطفائها خوفا من صراخ أبي الذي كان يرن في أذني أينما ذهبت. إلى أن وصلت إلى الدور العلوي وفوجئت بالعدد الكبير من المتقدمين لهذه الوظيفة قمت بتسجيل إسمي في قائمة المتقدمين وجلست أنتظر دوري وأنا أتمعن في وجوه الحاضرين وملابسهم لدرجة جعلتني أشعر بالدونية من ملابسي وهيئتي أمام ما رأيته. ثم لاحظت أن كل من يدخل المقابلة لا يلبث إلا أن يخرج في أقل من دقيقة. فقلت في نفسي: إن كان هؤلاء بأناقتهم وشهاداتهم قد تم رفضهم فهل سأقبل أنا ؟ فهممت بالإنسحاب والخروج من هذه المنافسة الخاسرة وبالفعل قمت من مكاني وهممت بالخروج فإذا بالموظف ينادي على اسمي للدخول. فقلت : لا مفر سأدخل وأمري إلى الله. دخلت غرفة المقابلة وجلست على الكرسي في مقابل ثلاثة أشخاص نظروا إلي وابتسموا ابتسامة عريضة ثم قال أحدهم: متى تحب أن تستلم الوظيفة ؟ فظننت أنهم يسخرون مني فتذكرت نصيحة أبي لي عند خروجي من المنزل بألا أهتز وأن أكون واثقا من نفسي. فأجبتهم بكل ثقة: بعد أن أجتاز الإختبار بنجاح إن شاء الله. فقال آخر: لقد نجحت في الإمتحان وانتهى الأمر. فقلت: ولكن أحدا منكم لم يسألني سؤالا واحدا فقال الثالث : نحن ندرك جيدًا أنه من خلال طرح الأسئلة فقط لن نستطيع تقييم مهارات أي من المتقدمين. ولذا قررنا أن يكون تقييمنا للشخص عمليًا فصممنا مجموعة إختبارات عملية تكشف لنا سلوك المتقدم ومدى الإيجابية التي يتمتع بها ومدى حرصه على مقدرات الشركة فكنت أنت الشخص الوحيد الذي سعى لإصلاح كل عيب تعمدنا وضعه في طريق كل متقدم وقد تم توثيق ذلك من خلال كاميرات المراقبة التى وضعت في الشركة. حينها فقط اختفت كل الوجوه أمام عيني ونسيت الوظيفة والمقابلة وكل شئ ولم أعد أرى إلا صورة أبي. ذلك الباب الكبير الذي ظاهره القسوة ولكن باطنه الرحمة والمودة والحب والحنان والطمأنينة. شعرت برغبة جامحة في العودة إلى البيت لتقبيل يديه وقدميه. اشتقت إلى سماع صوته وعِتَابه وفركة أذني. لماذا لم أرى أبي من قبل؟ كيف عميت عيناي عنه ؟ عن العطاء بلا مقابل … عن الحنان بلا حدود … عن الإجابة بلا سؤال … عن النصيحة بلا استشارة … تمنيت لو ركبت بساط الريح لأعود إلى بيتي وأحتفل معه بفوزي بالوظيفة الجديدة. تركت لهم ملفًا كاملًا يحوي شهاداتي وخرجت مسرعًا وخطواتي تسابق بعضها بعضا للحاق بقلبي الذي سبقني فرحا إلى البيت لأخبر أبى ماحدث وأننى اجتزت إختبار قبول الوظيفة وأن الفضل يعود إليه بعد ربى. وما إن طرقت الباب وأنا أغنى فرحًا ودخلت فإذا بجارى هو من فتح لى باب شقتنا ورأيت زحامًا داخل غرفة أبى إقتربت بحذر وضربات قلبي تضرب بعضها بعضا فتلقاني جاري باكيا واحتضنني قائلا : عظم الله أجرك في أبيك. تسمرت قدماي في الأرض ولم تعد تقوى على حملي ضاعت فرحتى واسودت الدنيا في وجهي بدأت الأرض تدور بي وهممت بسؤال كل من حولى أحقاً مات أبي ؟ أحقاً رحل ولن يعود ؟ رحيلك مُرٌّ يا أبي ليس هناك أقسى على النفس من رؤية حبيبك مُغطى بلا حراك تراه ولا يراك تنظر إليه للمرة الأخيرة ولا تكاد تصدق ما تراه عيناك . يا أيها الطاهر النقي … يا أيها الطيِّب الحنون … لو كنت أعلم أنك سترحل فجأة لكنت أعددتُ نفسي وتقربتُ منك أكثر وتزودت من برك بما قد ينفعني بعد وفاتك. لو كنت أعلم برحيلك لأخبرتك أنِّي لا أجد نفسي من دونك، ولا أعلم كيف ستصبح حياتي بعدك ليتك تسمعني الآن لأُخبرك أننى قبلت فى الوظيفة بفضل نصائحك التى كنت استاء منها. ليتك تسمعنى الأن أنَّ فراقك أجهدنى وأحزننى وقصم ظهرى. ليتك تسمعنى الأن وأنا أشعر بالوحدة فى كل مكان بعد رحيلك. رحلت وفي القلب غُصَّة وفي النفس حسرة على كل يوم لم أمتع ناظري برؤية وجهك البشوش ولا أذني بسماع صوتك الحنون. منحتنى كل شيء تملكه ولم تأخذ منى شيئا … منذ أن عرفت الحياة وأنت لى العطاء والصبر والأمان والمُعلِم … كنت أنت البارَّ بى الصادق فى حبك لى وفى تضحيتك من أجلى ولم تنل البر منى كما يجب أن يكون. غبت يا أبي وغاب عني العقل الرشيد والركن الشديد والسند المتين والناصح الامين.