بقلم/ افراح رامز عطيه
جلس الحسن البصري-رحمه الله- ذات يوم يعظ الناس، فجعلوا يزدحمون عليه ليقتربوا منه، فأقبل عليهم، وقال: يا إخوتاه، تزدحمون عليّ لتقتربوا مني؟! فكيف بكم غدًا في القيامة إذا قرّبت مجالس المتقين، وأبعدت مجالس الظالمين، وقيل للمخفين جوزوا، وللمثقلين حطوا؟ فيا ليت شعري: أمع المثقلين أحط، أم مع المخفين أجوز؟ ثم بكى حتى غشي عليه، وبكى من حوله، فأقبل عليهم وناداهم، يا إخوتاه، ألا تبكون خوفًا من النار؟ ألا من بكى خوفًا من النار نجاه الله منها يوم يجرّ الخلائق بالسلاسل والأغلال..
يا إخوتاه، ألا تبكون شوقًا إلى الله. ألا وإن من بكى شوقًا إلى الله، لم يحرم من النظر غدًا إلى الله إذا تجلى بالرحمة، واطّلع بالمغفرة، واشتدّ غضبه على العاصين.
يا إخوتاه، ألا تبكون من عطش يوم القيامة؟ يوم يحشر الخلائق وقد ذبلت شفاههم، ولم يجدوا ماء إلا حوض المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيشرب قوم، ويمنع آخرون. ألا وإن من بكى من خوف عطش ذلك اليوم سقاه الله من عيون الفردوس..
قال: ثم نادى الحسن رحمه الله : واذلاه إذا لم يرو عطشي يوم القيامة من حوض النبي صلى الله عليه وسلم..
**فاذكروا الله ذكر المتقين.وأجلوه إجلال المحبين ..لتشربوا كؤوسا من شرابه رحيقا مختوما..ثم تلحقوا بمن رفعهم الله عن الرحيق حتى صار شرابهم تسنيما..فأهل التقوى وقت صفاء الأوقات يشربون من شراب المصافاة كؤوسا مترعات..ويجنون من غرس الذكر ثمارا يانعات..ويخلع عليهم من ملابس القرب حلل فاخرات..
فسبحان من أكرم عباده المؤمنين بالتقوى..فكل كرامة لا تؤسس على التقوى ليس لها ثبات ولاجدوى..فما برح أهل التقوى يتركون شهواتهم من نفوسهم من خشية الله؛ويؤثرونه بطاعته على من سواه؛حتى أورثهم جواره..وبوأهم جنة المأوى..فالعاقبة للتقوى..
ومن عزم على قطع بحر الهلاك إلى ساحل السلامة ؛فليركب مركب المتقين..ومن أراد الفوز والفلاح؛والحصول بعد سلامة رأس المال على أوفر الأرباح ؛ فليستبضع بضاعة المتقين..فالعاقبة عند ربك للمتقين..
*******
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : التقوى ألا ترى نفسك خيرا من أحد..
قال ابن عباس رضي الله عنهما : التقى هو الذى يتقى الشرك والكبائر والفواحش..
قال بكر بن عبيد الله :لا يكون الرجل تقيا حتى يكون تقى المطعم تقى الغضب..
قال شهر بن حوشب :التقى هو الذى يترك ما لا بأس به حذر الوقوع فيما فيه بأس..
قال ميمون بن مهران :لا يكون الرجل تقيا حتى يحاسب نفسه محاسبة الشريك الشحيح..
قال ذو النون المصري : التقى من لا يدنس ظاهره بالمعارضات..ولا باطنه بالمخالفات..وأن يكون واقفا مع الله موقف الموافقات..
********
لقد جعلت التقوى من العبيد سادة..ومن المستضعفين أساتذة وقادة..جعلت بلال الحبشى أخا لسلمان الفارسى..ومن حمزة القرشى أخا لصهيب الرومى..لا فرق بين أبيض ولا أسود..ولا بين عربى وأعجمى إلا بالتقوى..
فيامن يدعى التقوى:
أنت مهموم بالقرش والفرش وسعد يهتز لموته العرش..
وجعفر تقطعت بالسيوف أوصاله
وارتفع بالفرح تهليله وابتهاله
تهاب الوضوء اذا برد الماء.. وحنظله غسل شهيدا فى السماء..
تعصى حى على الفلاح
ومصعب قدم صدره للرماح..
ماتهتز فيك ذرة
والموت يناديك فى كل يوم ألف مرة..
يحن المنبر للرسول الأنور والنبى الأطهر وأنت لاتحن ولا تئن ولايضج بكاؤك ولايرن..
*******
فأعلم وفقنى الله وإياك لما يحب ويرضى أنه لا شرف أعز من التقوى..ولا كنز أنفع من العلم..ولا لا مال أربح من الحلم..ولا لالا كرم أوفى من ترك الهوى..ولا عمل أفضل من الفكر..ولا حسنة أعلى من الصبر..ولاسيئة أخزى من الكبر..ولا دواء ألين من الرفق..ولا داء أوجع من الحزن..ولا رسالة أعدل من الحق..ولا دليل أنصح من الصدق..ولا فقر أذل من الطمع..ولا غنى أشقى من الجمع..ولا حياة أطيب من العافية..ولا عيش أهنأ من العفة..ولا عبادة أحسن من الخشوع..ولا زهد خير من القنوع..ولا حارس أحفظ من الصمت..ولا غائب أقرب من الموت..
فيامن فاته رفقة من (تتجافى جنوبهم عن المضاجع )وحرم وسام (والمستغفرين بالأسحار )وغفل عن داء (إن النفس لأمارة بالسوء) وماطلب دواء (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)فهو فى أجواء الهوى يسرح..وفى ساحات الغى يمرح..
اسمع ياحبيب :إذا غرق القلب فى المباح أظلم ؛فكيف بالحرام؟!
أنى لمزكوم الهوى أن يستنشق نسيم السحر؟! وأنى لعاشق طين أن يفوز بحور عين؟!
ياهذا :تزعم أن الآخرة همك! (كلا بل تحبون العاجلة)وتظن أن لك صبرا على النار! (كلا إنها لظى)
وتعجب من انغلاق الأبواب فى وجهك وتسأل ماالسبب؟! (قل هو من عند أنفسكم)..
أما وقد علمت هذا فدع عنك التغنى بأشعار الهوى وانشغل بترتيل (والنجم إذا هوى)وكن ممن أجاب النداء..وكسر قيد المعصية وحلق بهمته إلى السماء..تاركا خلفه الدنيا العرجاء.. لمن غفل وسها..حتى دهاه أفظع مادهى..وحط ركنه فوهى..ذهبت لذة ذنوبه وحبس بها..نظر فى عاجله ونسى المنتهى..
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة..وكلمة العدل فى الغضب والرضا..والقصد فى الفقر والغنى..نسألك برد العيش بعد الموت..ولذة النظر إلى وجهك الكريم..والشوق إلى لقائك فى غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة..برحمتك يا أرحم الراحمين..