أسئلة الزمن الموبوء …

FB IMG 1605618471366


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيروس كورونا أزمة عالمية تطورت إلى كارثة في العديد من الدول ومجتمعاتها …
بعض الأنظمة الصحية تقاوم بعسر، وبعضها انهار أو هو على مشارف الانهيار …
بات الحديث عن الاقتصاد والأمن والترفيه والحرِّيات وغيرها من اهتمامات الإنسان المعاصر في أصقاع المعمورة كلها من هوامش الثرثرات المؤسسة على الخرافات والهادفة إلى تزويد الفراغات الروحية ببعض ما يلفت الانتباه لثانية من الزمان عند من لا يهمه الزمان أو للقليل من الثواني عند هذا أو ذاك المعتوه من بني الإنسان …
الموت … نعم الموت المبرمج وحده – بما يسبقه من ذعر وهلوسة وسلوكات ليست كالسلوكات وكلمات لا تحمل معاني الكلمات وإصابات تلو الإصابات تلو الإصابات فمستشفيات أو فضاءات تشبه المستشفيات وإنعاشات كبيرة بجانبها إهمالات كبرى في انتظار انفصال الروح عن جسدها اختناقا – قد أصبح هو موضوع اللحظة والساعة والنهار والأسبوع والشهر بعد الشهر بعد الشهر ولا ندري إلى أي ظرف زمني سيصل في مستقبل ما تبقى لنا من زمان ضمن دائرة الأحياء الذين ما عاشوا أحياء في الدهر الأخير وإنما كانوا شبه أحياء لا غير …
نعم موت الأجساد الفانية أصلاً وفصلاً التي سبقها منذ أحقاب وأحقاب موت الأرواح الخالدة أصلاً وفصلاً …
يا لَلهول … يا للهول ماذا فعل الإنسان بنفسه …
في طفولتي البعيدة البعيدة، ونحن عصرئذ تحت نير الاستعمار الهمجي البغيض الذي جاء ليفرض حضارة القوة المادية بحد الحديد وتزييف كل أمر رشيد سديد، سألتُ معلمي الذي لا يختلف وضعه عن وضعي إلا بعدد السنوات وأنا أرتجف بدنا ولسانا :

  • ما معنى الحياة ؟
    نظر إلى الأفق البعيد بعض الوقت دون أدنى حركة ثم قال بصوت بارد ما معناه :
  • الحياة هي أن لا تعتقد أو تفعل ما يعتقده ويفعله من تراهم يسيطرون علينا بيد القوة المادية الضارية الظالمة التي ستفنينا وستفنيهم معنا دونما أدنى ريب إذا لم يتغير كنه الأمور كلها …
    سكتُّ وقتها من غير أن أفهم شيئا كثيرا مما قال، وبعد تعاقب الليل والنهار عقودا متتالية انتبه إدراكي قليلا فوجدت أن الأمور كلها لم يتغير فيها إلا بعض أزيائها وزخرفاتها المسطحة، والإنسانية بجميع أطيافها أصبحت إمّا تعتقد وتفعل ما أشار إليه معلمي ذات عصر غابر وإما هي تحت سياط من يعتقد ويفعل ذلك، والحياة في شكلها الروحي القيمي مغيّبة /غائبة وفي شكلها الجسدي المادي تسير نحو الغياب / التغييب …
    ماذا حدث ؟؟؟
    لِمَ الإنسان يموت بالموت غير الطبيعي بعدما مات بالحياة غير الطبيعية ؟؟؟
    مَنْ أسّس للموت غير الطبيعي بالحياة غير الطبيعية ؟؟؟
    أين ذهبت الحياة الطبيعية وأين ذهب الموت الطبيعي اللذان فُطِر عليهما الإنسان وسار مساره فيهما من غير أن يَحْدُث بينه وبينهما تصادم غريب مرعب مهدد لوجوده برمته مثل الذي يحدث في زمنه الأخير ؟؟؟
    الإنسان كائن من روح لها عالمها اللامحدود وبَدَنٍ له عالمه المحدود، ومراعاة التراتبية بينهما والتوازن بين حاجاتهما العادية وفق الفطرة السليمة التي ترفض كل أنواع الشذوذ وأشكال التطرف هو الحياة في أعمق دلالاتها وأكثرها صفاء واستقامة عنده …
    لذا؛ فعلاج كورورنا فيروس وما سيأتي من كورونات أخرى أضخم وأخطر على الوجود كله لا يمكنه أن يكون فقط بالعزل الإجباري والحجر الصحي والتعقيم في كل مكان وإنتاج اللقاح والدواء بعد اللقاح والدواء بكل ما ترتب ويترتب عن ذلك من مخاطر جمة لا يحسبها حاسب … وذلك لأنه موجه للبدن المريض بغياب روحه والذي لا يمكنه أن يتماثل للشفاء المعقول بمعزل عن روحه الغائبة أو المغيبة إلى حين …
    قد يقول قائل إن الروح حاضرة في الأسرة والتعليم والثقافة والدين والبحث والحرية والديمقراطية والحضارة وما إلى ذلك من مصطلحات شبه فارغة من محتوياتها المرجعية في حياتنا المعاصرة … أقول له : قد أصبْتَ إذا ما اعتمدنا في تقييمنا على ثقافة البصر المادي المحاور للقشور، وقد جانبت الصواب إذا ما وظفنا ثقافة البصيرة الروحية المحاورة للأعماق في التقييم …
    فالأسرة اقتصر دورها على الإنجاب كيفما اتفق وبعض الرعاية المادية المؤقتة في غياب تام لدورها الروحي المقدّس، والتعليم تم تسخيره لتلقين المعرفة الرثة التي تصلح اليوم ولا تصلح غدا وجُرِّد من دوره التربوي الذي يتماشى وتوصيف الإنسان المُكرّم، والثقافة أصبحت ترفيها لازدهار السياحة وسُحِبتْ منها المحافظة على قيم الخصوصية والهوية، والدِّين أفْرِغ من جوهره الهادف إلى بناء الإنسان وفق الفطرة التي خصه الخالق بها لا وفق الغريزة التي يشترك فيها مع غيره من الكائنات وأبْعِد قسْراً عن أهمِّ ممارسات الحياة، والبحث الفاعل تخلى عن خدمة الإنسانية وأصبح في يد القوة المادية تفعل به ما تريد من جرائم وكماليات دون أدنى ضمير، والحرية تخلت نهائيا عن المسؤولية وألغتْ كل خلق قويم ولبست لباس التحلل من جوهر القيم والشرائع، والديمقراطية تخلت عن اهتمامات الملايير من البشر الذين يموتون ظلما وجهلا وجوعا ومرضا وقهرا وتهميشا وأصبحت وسيلة الأقوى ماديا ليهيمن كيف يشاء على من يشاء وفي أي وقت يشاء، والحضارة فُصِلتْ عن ارتقاء الإنسان في إنسانيته وارتبطت بسيطرة الإنسان على أخيه الإنسان بالدولار والنار وما يلائمهما من الإشهار من غير التفات إلى ما ترفضه الضمائر القليلة الحية من شر وعار …
    بعد هذا كله وغيره وغيره وغيره مما وقفت عليه الأقلام الواعية المسؤولة في اللغات كلها، وهو كثيرجدا جدا؛ يطرح علينا زمننا الموبوء السؤالين التاليين :
  • مَن أسّس للمادية القاتلة ومَن نظَّر لمفاهيمها المدمرة للكون كله ؟
  • هل وصلت الإنسانية إلى الهلاك الذي بات مسألة وقت فقط ولا مفر منه ؟
    بالنسبة للنزعة المادية المدمرة فالواضح من خلال أحداث التاريخ أنها مرت بإرهاص طويل جدا تواجد في جل العصور بدرجات نسبية متفاوتة ثم مرت إلى تمكين يكاد أن يكون مطلقا في العصر الحديث.
    فأما الإرهاص الطويل فيتمثل في التعدي على أوامر الله تبارك وتعالى بالضرر المحرِّف للفطرة السليمة في شكل فردي كحادثة قابيل مع أخيه هابيل أو شكل جماعي كحادثة قوم لوط وما قام به بعض الطغاة وبعض القرى الضالة في هذا العصر أوذاك، وكان أثره في الغالب منحصرا في هذه البقعة الجغرافية أو تلك، ولم يصبح عالميا نتيجة ما كانت عليه المواصلات في تلك الحقب البعيدة، وقد عالجته الرسالات السماوية في أزمنة نزولها.
    وأما التمكين الذي يكاد أن يكون مطلقا للنزعة المادية المدمرة فهو ما وسم العصر الحديث بالظاهرة الاستعمارية اللاإنسانية بإيعاز من ثالوث الشر الماسوني الصليبي الصهيوني في تحالف ظاهره الحضارة والتمدن وحقوق الإنسان ورفاهية العيش وباطنه الإلحاد ومحو القيم الأخلاقية وإخضاع الإنسانية كلها للأطروحة الغربية وحدها بشقيها اليساري القاتل لروح الشعوب والليبرالي الناهب لأموال الشعوب … ومن هذا تشكّلتْ ” المركزية الأوربية ” التي أنتجت الاستعمار الحديث المؤسس على المادية الغربية ثم تشكلت ” العولمة ” التي أنتجت الاستعمار المعاصر المؤسس على امتدادات المادية الغربية … وبمحركات هذه الأطروحة العنصرية الهادفة إلى وضْع الآخر المختلف أمام الاختيار بين الإبادة أو التهميش أو الاستعباد أو الانسلاخ من هوية الهامش والذوبان في هوية المركز، وفق ما تقتضيه مصالح هذا المركز الذي لا يحترم ولا يعترف بأي وجود ما عدا وجوده الخاص به دون سواه.
    وبالنسبة لوصول الإنسانية لحافة الهلاك فالأمر لا يتعلق بمجاز تعبيري وإنما هو حقيقة فرضها طغيان الإنسان المادي الجشع الفارغ من مسؤولية التاريخ وقيم الروح على الإنسان الطبيعي المعتدل الجامع بين الروح والمادة بتراتبية وتوازن ومسؤولية وقيم وفق فطرته الأصلية السوية.
    والمشكلة كلها والحل كله يكمنان في الصراع القائم بين الإنسان المادي القوي بما يملك والضعيف في روحانيته إلى درجة فقدان إنسانيته والإنسان الطبيعي الضعيف بما لا يملك والقوي في روحانيته التي أصبحت المنقذ الوحيد للإنسانية جمعاء مما هي فيه من ويلات ودمار … والغلبة حاليا هي لجبروت النزعة المادية التي تسير بالخليقة كلها بما فيها البشرية إلى الهلاك المؤكد، وحل هذه المشكلة الوجودية العظمى لا يمكن أن يكون إلا بالعودة التدريجية للاعتدال الفطري الذي يحيا منه الإنسان السوي المغلوب على أمره في هذا الزمن الموبوء.
    ويكمن هذا الاعتدال الفطري بصور تجزيئية نسبية في ما هو ديني أخلاقي بشكل عام ويكمن بصور كلية في حياة الفرد والمجتمع والدولة والإنسانية والطبيعة والوجود كله بأبعاده الواقعية والغيبية في الإسلام الحنيف بوصفه عقيدة وشريعة ورسالة خير ورحمة للعالمين بغير استثناء يذكر، كما نزل في القرآن العظيم على رسول الهدى محمد المصطفى عليه الصلاة والسلام وجسدته سيرته النبوية الشريفة الصحيحة، لا كما يمارسه معظم مسلمي هذا الزمن الموبوء الذين غُلِبوا على أمرهم كجل البشر الواقعين بقوة الحديد والنار تحت سطوة المادية المدمرة للوجود … فهل يحدث ذلك ومتى يحدث وكيف يحدث؟
    دمتم في حفظ الله ورعايته.
    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    بقلم : أ . د . بومدين جلالي