أنا والآخر …

145166808 3888303847899329 3764045402465781578 n

بقلم : الأستاذ الدكتور بومدين جلالي…

في هذا الزمن الذي اختُزِلتْ فيه المسافات وتكثفّت التواصلات وكثُرت التقاطعات والتعارضات والتصادمات؛ لقد أصبح من الضروري أن يعيش الفرد وجوده وهو محدِّد بدقة علاقاته مع الآخر المختلف كثيرا أو قليلا، وذلك حتى تأخذ الحياة مجراها خارج النزاعات الوهمية التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع …والعلاقات المعنية بالتحديد تنقسم في منظوري إلى قسمين، أحدهما يدخل ضمن المتغيِّر المتجدد باستمرار والثاني يدخل ضمن الثابت المتطور داخل ثباته باستمرار …

فأما المتغير من العلاقات فهو لا يخرج عن العواطف والمصالح التي تتلون بألوان الظروف المختلفة، وسنين الحياة بتجاربها، وإقامة الفرد بما لها وما عليها، وتربيته ورغباته وطموحاته وما إلى ذلك. وإذا ما حدث وأن وقع في بعض عناصرها ثبوت معيّن فهو استثناء وليس قاعدة …وأما الثابت من هذه العلاقات فهو لا يخرج بدوره عن مكونات الهُوية التي لا تتبدل وإنما تتطور عمقا وطولا وعرضا بالاتساع أو الانكماش بحسب قناعات الفرد، وثقافته، وتأقلمه مع الأحداث وما يجري هذا المجرى. وإذا ما حدث وأن وقع التغير الجذري في عنصر من عناصرها فهو كذلك استثناء وليس قاعدة يقاس عليها …

تأسيسا على هذا التقديم، وتلبية لرغبة بعض طلبتي وقرائي الذين التمسوا مني أن أكتب كلمة مختصرة توضِّح “”علاقة الأنا بالآخر “” بناءً على تجربتي الشخصية ورؤيتي الذاتية للوجود؛ أقول ما يلي :بالنسبة للقسم المتغير في علاقاتي بالآخر فهذا – ككل بني آدم وحواء – تتحكم فيه العواطف في مقام العاطفة كما تتحكم فيه المصالح في مقام المصلحة بما فيهما من اضطرابات طبيعيةٍ بين صعود ونزول، وما يعطيه طابع الخصوصية عندي يوجد في التربية التي تلقيتها في منطلق مساري وفي الغاية التي حددتها لهذا المسار بعد أن وعيت ونضجت …وبالنسبة للقسم الثابت في علاقاتي بالآخر – وهو صلب هذه الكلمة المختصرة – فإنه مرتبط بمكونات هُويتي ومنطلق منها انطلاقا إيجابيا وفق تقديري المؤسس على موروث مجتمعيّ وتراكم معرفيّ هما حصيلة حياتي العادية الواقعية.

وهذا – بحسب رؤيتي الخاصة دائما – لا ينجم عنه أدنى إشكال يعرقل الحياة وإنما يترتب عليه ما هو الحل لكل الإشكالات العامة التي تعترض سبيل الذين يشتركون معي في استثمار الهوية استثمارا صالحا سلميا تعايشيا في علاقاتهم بالآخرين المختلفين كثيرا أو قليلا.إذنْ؛ أنا إنسانٌ مسلمٌ عربيٌّ جزائريٌّ، وهذا ما تلزمني به هُويتي في علاقتي بالآخر المختلف كثيرا أو قليلا : -أولاً : أنا إنسان .. والإنسانية التي أنتمي إليها لها تكريمها الذي لا يميز بين لون ولون أو جنس وجنس أو مستوى اجتماعي وآخر، وهو يقتضي التعامل بالحُسْنى مع الجميع والتعايش معهم في أطر الأمن والسلام والتعاون على نشر الخير والفضيلة والعدل والحرية واحترام جميع المخلوقات العاقلة وغير العاقلة، وبالتالي لا عداء ولا صدام إلا مع من يتعدى على قيم الإنسانية ويرتكب جرائم ضدها باسم عنصرية من العنصريات أو رغبة من الرغبات، أو يتعدى على وجود الحياة الطبيعية في الأرض كيفما كان نوع هذه الحياة حيوانية أو نباتية لأن تدميرها هو تدمير للإنسانية في صورتها المكرّمة .. وإنسانيتي تلزمني بالتعامل مع كل إنسان وفق قيمها التي ما ينزل الإنسان إلى الحضيض أحيانا إلا عندما يتخلى عنها جزئيا أو كليّا.

ثانياً : أنا مسلم .. والإسلام جمع الفضل كله، وأول هذا الفضل هو أن أي إنسان – بغض النظر عن لونه أو جنسه أو جنسيته أو مستواه – قال ” لا إله إلا الله، محمد رسول الله ” هو أخ لي، وللأخوة حقوقها وقيمها في السراء والضراء … وهذا يترتب عليه وجوب المحبة في الله، وما أدراكم ما المحبة في الله ! … فلا ظلم ولا عدوان ولا إهمال ولا استصغار … ومن هنا فلا مجال للتعدي – تحت أية تسمية كانت – إذْ كل المسلم على المسلم حرام … وإسلامي يلزمني بدوره بالتعامل مع كل مسلم وفق قيمه التي ما ينزل المسلم إلى الحضيض أحيانا إلا عندما يتخلى عنها جزئيا أو كليّا. ثالثا : أنا عربي .. والعروبة لا تقتصر على النسب أو اللغة أو الثقافة أو الحضارة وإنما هي قيم إنسانية اكتملت بكمال الإسلام الذي جاء رحمة للعالمين. وهذا التوجه يجعل العربي أخا للعربي بأكثر من أخوة واحدة، وهو ما يدعم ويثبت القيم الإنسانية الإسلامية ويعطي للعروبة بعدها الكوني العالمي الذي لا يضر أحدا ولا يتقبل الضرر من أحد .. وهو توجه يصل إلى تجسيد القيم السالفة الذكر بين العرب جميعهم .. وعروبتي تلزمني أيضا بالتعامل مع كل عربي وفق قيمها التي ما ينزل العربي إلى الحضيض أحيانا إلا عندما يتخلى عنها جزئيا أو كليّا.رابعا : أنا جزائري .. والجزائر بمكوناتها البشرية المتنوعة من عرب وبربر وزنوج وأتراك وغيرهم هي أرض جامعة بنجاح للقيم الإنسانية الإسلامية العربية المنسجمة في طابع وطني شعبي جزائري أظهر قوته العامة بوضوح لا غبار عليه خلال قرون طويلة من التعايش والتآخي والتضامن وبناء الفعل الحضاري معاً، كما أظهر قوته الخاصة في مقاوماته البطولية ضد الإسبان ثم ضد الفرنسيين بتقديم ما عليه من تضحيات كبرى صاغت التاريخ صياغة وطنية منمازة خالدة .. وقيم هذا التاريخ وهذه الملاحم هي التي يجب علينا اليوم استثمارها حتى لا نَظلِم ولا نُظلَم ولا نتنازع بيننا دون فائدة تُذكَر .. وجزائريتي تلزمني كذلك بالتعامل مع كل جزائري وفق قيمها التي ما ينزل الجزائري إلى الحضيض أحيانا إلا عندما تخلى عنها جزئيا أو كليّا.مع الإشارة إلى أن القيم المعنية ليست في منأى عن النقد بشرط جوهري هو ألّا يكون هذا النقد مادحا من أجل المدح ولا قادحا من أجل القدح وإنما يكون موضوعيا تحليلا تطويريا بنّاءً بغية الوصول إلى مستقبل جزائري ينتج فيه الجزائريون والجزائريات ما يثبّت وحدتهم ويقوّي شوكتهم ويربطهم فيما بينهم ومع الآخر ربطا متسامحا طيبا ويجعل جهدهم إضافة إيجابية للحضارة العالمية التي تشارك فيها الإنسانية جمعاء في تعايش وأمن وسلام وعطاء مستمر ورفاهية معقولة