أنبياء الإلحاد

أنبياء الإلحاد
أنبياء الإلحاد

أنبياء الإلحاد

بقلم / الدكتور ظريف حسين رئيس قسم الفلسفة بآداب الزقازيق…

   إن أكثر أربع نظريات تأثيرا في تاريخ العلم صاغها ملحدون،كما أدت بدورها إلي دعم الملحدين،برغم أن فصل التفسير العلمي عن الاعتبارات الدينية يتم في ذهن العالم بطريقة تلقائية،و هذا لا يعني بالضرورة أن العلم يتناقض بصفة عامة مع الدين،و لكن طبيعة العلم نفسها هي التي تفترض تفسير الظواهر بظواهر أخري فقط لا غير.و سنعرض لأهم و أقدم هذه النظريات كما يلي:                                
1- نظرية التطور: 
   و تتلخص في أن حياة الإنسان الفرد هي تكرار أبدي لتطور النوع البشري علي مدار التاريخ،أي أنه بدأ بخلية واحدة و ارتقي ليصبح في النهاية إنسانا مارا بكل أشكال الحياة الحيوانية الأدني منه في الرتبة.
  و لقد سببت هذه النظرية أكبر صدمة للمؤمنين بالله،أي الذين يعتنقون نظرية الخلق الواردة في الكتب المقدسة،من كل الملل و النحل السماوية ظنا منهم أنها تتضارب مع الإعتقاد بأن الإنسان مخلوق علي صورته الحالية، طبقا لما جاء في العهدالقديم اليهودي،و ليس مجرد كائن حي متطور عن الأحياء الدنيا كما قرر دارون.
    و لكن هؤلاء المؤمنين قد لا يمكنهم جحد الأدلة العلمية التي قدمها دارون تصديقا لما قال،و خاصة الحفريات،وعلم الوراثة الجزيئية،و  علي الأخص الچينوم البشري علي صدق نظريته.
  2-النظرية المادية التاريخية:
   و هي المعروفة بالماركسية و ملخصها أن طريقة حياة الإنسان أو ثقافته يصنعها عمله و دخله فقط،و بالتالي فإن الاقتصاد و مستوي معيشة الناس هو الذي يحدد طريقة تفكيرهم.و ليس العكس:أي أن نوع العمل و أدواته و الأشكال القانونية التي تضمن وجوده مثل الاتفاقيات و التعاقدات و القوانين المنظمة للعمل…هي التي تحدد مكانة الناس في مجتمعاتهم،و مكانة المجتمعات نفسها في العالم،أي تحدد مدي سلطة كل منهم علي الآخرين. 
   و هذا يعني ببساطة أن الإنسان طبيعته مادية،و بناء عليه فإن الإقتصاد هو الذي يحدد نوع السياسة و النظام السياسي…،
و بصفة عامة تصبح الثقافة بكل أشكالها و أرفعها مقاما و قداسة مرهونة بالمستوي الاجتماعي الذي هو بدوره مرهون بالمستوي الاقتصادي للناس.
    و من الواضح هنا اشتراك هذه النظرية مع نظرية التطور لدارون في اعتمادهما معا علي التفسير المادي الطبيعي فقط،أي علي اكتفائهما بالتفاسير المادية،أي الطرائق العلمية لوصف التحولات الحيوية و الاجتماعية،علي الترتيب،و تجنب كل ما يتعلق بالأديان و خاصة ما يعرف عادة باسم “الروح”و النظر إلي كل ما ليس”ماديا”علي أنه شكل أعلي من أشكال التحولات المادية،و من ذلك الدين و الأخلاق و الفن…و بالاختصار:كل أشكال الثقافة و أرفعها قيمة في نظر الشعوب المثالية و المقدسة.
   3- نظرية التحليل النفسي: 
  و تتلخص نظرية فرويد في أن الحياة النفسية للإنسان محكومة ببنية مادية  لا بمنطق روحي غيبي علي الإطلاق؛ فالطاقة النفسية – ككل أشكال الطاقة-ذات طبيعة مادية،و هي عبارة عن غريزة لها دافعان متصارعان أحدهما إيجابي و هو”التمسك بالحياة”و الآخر سلبي و هو “الخوف من الموت”،و أن كل شيء في حياة الفرد محكوم بهذين الدافعين الرئيسين.
   و  لقد قرر فرويد أن يؤسس تفاسيره للعمليات النفسية علي أنها عمليات مادية بحتة،يحكمها أيضا منطق مادي له صورتان:
الأولي: شكل من أشكال”قانون بقاء الطاقة”.
و الثانية هي قانون نفسي يعد ترجمة نفسية مباشرة للصورة الأولي مؤداه أن”كل شيء لا بد من أن يعبر عن نفسه و إنجاز وجوده باحدي الصور المتاحة،و أنه إذا استحال عليه ذلك بالطرائق الطبيعية للإشباع في تاريخ إشباعها الطبيعي،فإنه سينشأ المرض النفسي الذي يسميه بـ” العصاب”الذي قد يأخذ منحي أكثر حدة،أي صورة “ذهان”أي اضطراب عقلي.
و أن كل هذه التصرفات إذا لم تتم تحت رقابة الوعي فإنها ستتم حتما في غيابه،أي سيتم إشباعها و التعبير عنها بطريقة”لا واعية”و هذا التعبير يعتمد علي محتويات الوعي،أي علي مضمون الثقافة.و كل ذلك محكوم بـ”حتمية نفسية”،بمعني أن كل شيء نفسي محكوم بإجراءات صارمة لا يمكن أن يحيد عنها و إلا نشأت الأمراض أو الانحرافات التي هي أعصبة نفسية و ربما عقلية.و بذلك يكون فرويد قد أعاد استورد قانوني بقاء الطاقة و قانون بقاء الكتلة من عالم الفيزياء إلي عالَم النفس.
    و تستبعد هذه النظرية النفسية كل ما يعده المؤمنون من مظاهر الروح أو النفس التي هي – في نظرهم – من أصل غير  مادي،أي مستقلة عن الجسد.فالنفس طبقا لهذه النظرية المادية مجرد مجموع وظائف المخ الواعية و غير الواعية بنفسها،أي مجرد مظاهر للوظائف العليا للمخ و خاصة مراكز الفكر و العواطف.
   و كان من نتائج هذه النظرية تفسير الأمراض النفسية و العقلية بوصفها مجرد ردود أفعال لتعويض النواقص في إشباع الرغبات المادية في مراحل الحياة الباكرة،طبقا لقانوني “بقاء الطاقة” و “الحتمية النفسية”،كما قلنا،أي ضرورة إشباع الحاجات النفسية الحيوية بطرائق معينة و في تواريخ محددة.
و برغم التعديلات التي طرأت علي هذه النظرية سواء من فرويد نفسه أم من تلاميذه و نقاده،فإنها حققت نجاحا ملحوظا في فهم النفس البشرية،و يظل النهج المادي في تفسير الظواهر النفسية بصفة عامة هو أبرز نقاط الاتفاق بينها و بين طب المخ و الأعصاب الحديث.
 4- النظرية النسبية:
   و هي النظرية التي استطاع بها آينشتين القضاء علي أشباح المطلق المادي في الكون و لكن المثقفين الذين تلقفوها وظفوها كعادتهم توظيفا عاما و مطلقا،و في كل المجالات.
    و أهم ما في هذه النظرية هو أننا يمكننا السفر عودة إلي الماضي الذي كان مستقبلا في يوم ما،و بذلك يقبل الزمان الرجوع للخلف.
و لكن العائق الأوحد لإنجاز ذلك السفر هو غياب وسيلة المواصلات التي تمكننا من الانتقال بسرعة الضوء علي الأقل.
  و ما أود أن أقوله هنا هو أن الطبيعة لا تعطي علمها إلا للعالمين بقوانين عملها فقط.و بذلك كانت الطبيعة في النظريات الأربع السابقة مستقلة تماما عن معتقداتنا الدينية التي لم تعد مكونا من مكونات معارفنا؛فكوننا مؤمنين أو ملحدين ليس له أدني علاقة بمكانتنا في العلم و لا في العالم! 
   و كذلك الأمر في مجالات السياسة والاجتماع…؛فلا بد من أن تكون في كل ذلك علمانيا لتفلح في فهم الأشياء و تسييرها طبقا لقوانينها التي أودعها فيها بارئها،أي أنه لا محيص لنا عن الفصل بين المناهج العلمية و العقائد الدينية،فعندما نمارس العلم و أي نشاط إنساني آخر،فلابد من الرجوع إلي قوانين الله في الطبيعة و ليس إلي الله نفسه،بغية التحكم في الطبيعة،و إلا حجزنا مقاعدنا في قطار التخلف الذي لا يسير أبدا إلا إلي الوراء!