مقال بقلم رئيس القسم الأدبي:د. عزة محمود على
كان من نتائج العولمة أنْ وضعت المنظمات بأنواعها سواء (الشركات، المؤسسات والكيانات المُهيكلة إداريًا) في بيئات اقتصادية، ومالية، وقانونية ذات تغير كبيرٍ وسريعِ الإيقاع، فجعلت العالم المترامي الأطراف كقرية صغيرة، فلم تعد هناك القيودُ التي كانت مفروضة من قَبْل من جانب الدول لحماية أفكارها وثرواتها الإنتاجية، وأصبحت حريةُ حركة وتداول المعلومات أكبر بكثير مما كانت عليه في الماضي، مما أشعل حدةَ المنافسة بين المنظمات والشركات العالمية والمحلية والإقليمية لعرض أفضل ما لديها. وقد فَرَضت هذه النتائجُ والظروف والتغيرات البيئية المغايرة للواقع الذي ساد في الماضي، على المنظمات والمؤسسات ضرورةَ سرعة التعامل والتكيف معها، فشرعت في تكييف استراتيجيتها العامة وممارساتها الإدارية في جميع مجالات العمل مع هذه التغيرات البيئية الداخلية والخارجية. وكان أحدَ أهم مجالات العمل داخل تلك المؤسسات والمنظمات، – والذي احتاج إلى تغيير شامل وتكييف- مجال إدارة الموارد البشرية، فكان من غير الممكن أن يستمر دورُ “إدارة الأفراد” كما كان قديمًا، وسعت تلك المنظمات إلي تغيير ذلك المسمى واستبداله بعبارة أكثر توافقًا مع متطلبات التحديث وهو”إدارة الموارد البشرية”Human Resource، ولم يقتصر التغييرُ على المسمى فقط، بل امتد التغيير إلى المضمون والأدوار، وأصبح لإدارة الموارد البشرية استراتيجيةٌ خاصة تنصهر في الاستراتيجية العامة للمنظمة،
وتعد جزءً لا يتجزأ منها، فضلاً عن تكاملها وتناسقها معها. إنَّ استراتيجيةَ إدارة الموارد البشرية الفعالة تتوقف عليها استراتيجيةُ المنظمة المستقبلية؛ حيث تلبي تلك الأولى حاجةَ الإدارات المكونة للمنظمة من الموارد البشرية المناسبة، والمدربة والمؤهلة،
بشكل جيد، من خلال برامج تدريبية متخصصة، وسياسات تنظيمية مقننة، تضعُها إدارةُ الموارد البشرية لرفع وتنمية قدرات هذه الموارد البشرية، والتي عن طريقها ستحققُ كلُّ إدارة –
أو وظيفة – داخلَ المنظمة أهدافَها الاستراتيجية، ومن ثَمَّ تحقق المنظمةُ أهدافها الاستراتيجية العامة وتتمكن من الاحتفاظ بتأدية دورها المنوط بها بنفس الكفاءة بل واستيعاب ومتابعة مستويات الجودة العالمية. وهكذا أصبحت مسؤوليةُ إدارة الموارد البشرية كبيرة جداً،
فمُستهدَفٌ منها وبشكل متواصل،تهيئةُ وتكييف استراتيجيتها ونشاطاتها وممارساتها مع المتغيرات والتحديات البيئية الداخلية والخارجية التي تؤثر في استراتيجية المنظمة العامة. وقبل الحديث عن ماهية استراتيجية إدارة الموارد البشرية بالمؤسسات الأرشيفية، والأبعاد الاستراتيجية لدور إدارة الموارد البشرية، نود أن نٌوجِزَ بعضاً من التحديات والمتغيرات الإدارية، والتسويقية التي تحيط بالمؤسسات الأرشيفية الوطنية وتعمل في ظلها، وهذه التحديات المعاصرة سواء كانت إدارية أو قانونية… إلخ تفرض على المنظمات –
وفي القلب منها إدارات الموارد البشرية – أن تتعامل معها بما يناسبها من وسائلَ وإجراءاتٍ معاصرة أيضاً، ونُتبِع ذلك العرضَ بعرض موجز آخر للوظائف الأساسية للإدارة. وسوف نعرض لأهم تلك التحديات والمتغيرات بشكل مبسط فيما يلي:
أولاً – تعد المؤسسة الأرشيفية -كغيرها من مؤسسات الدولة- مكان للعمل والعيش معًا، يجب أن يسودَها جوٌّ من الألفة والمودة والمحبة بين العناصر البشرية؛ فالمؤسسة بمثابة الأسرة المترابطة، أفرادُها لديهم ولاء وانتماء لها، ويسعَون إلى تحقيق أهدافها.- قد يحيط بالمؤسسة الأرشيفية –
التي تعد كيان حافظ لذاكرة الأمة ومصدر رزقِ لكل من يعمل فيها- مخاطرُ بيئية على رأسها المنافسةُ المعلوماتية والتقنية، والتي تعد من أخطر المنافسات في الوقت الراهن؛ لذلك فالكل عليه مسؤولية مشتركة وجسيمة، وهي أن يعي هذه المخاطر.- البيئة التي تعمل فيها المؤسسة الأرشيفية سريعة التغير نظرًا لاتساع مجال التداول المعلوماتي والانفتاح الواضح في وسائل التواصل الاجتماعي والمهني، ومن لا يتكيف مع ذلك التغيير سيفقد مكانته ويسقط من الحسبان
– إن رضاء العميل أو المستفيد من الخدمات المعلوماتية بالمؤسسات الأرشيفية وثقته بالمؤسسة هو أساس بقاءها واستمراريتها، وبالتالي فكل من يعمل في المؤسسة الأرشيفية لا يجب أن نعتبره مهنيًا في مجال الأرشفة وتقديم الخدمة المعلوماتية فقط؛ بل هو بمثابة رجل تسويق يسعى للتعريف بخدمات المؤسسة وإرضاء المترددين عليها لتلقي الخدمات سواء باحثين أو مستفيدين، فهذه مسؤولية الجميع.
– يعد تحقيقُ القيمة المضافة في جميع نشاطات المؤسسة هدفُ ومسؤولية كل من يعمل فيها، فالجميعُ عليه أن يفكر في مسألة الربح المادي للمؤسسة حتى وإن كانت المؤسسة قطاع خدمي؛ فإن النظرة التسويقية والربحية يجب أن تكون ضمن أهداف المؤسسة وأحد أهم مسؤوليات العاملين بها
.- الطموحُ المستمر والسعي للأفضل هو شعار المؤسسة الأرشيفية وجميع من يعمل فيها من مهنيين وأخصائيين وباحثين، ومن ثم فمواجهةُ التحديات جزء من حياة العاملين في المؤسسة.
– الاستفادة من أخطاء وتجارِب الماضي مسألة في غاية الأهمية، فما تتوصل إليه الدراسات الخاصة بجدوى العمل بالمؤسسة الأرشيفية ووضع الأيدي على أسباب الفشل المرئية للعين يجب أن يتم معالجته ،
فالصمت لن يؤدي إلا للندم، فالنظر دائمًا يجب أن يكون للأمام للحيلولة دون السقوط في براثن الفشل الإداري أو المهني وهما بمثابة أذرع المؤسسة العاملة.- يجب أن يضع كل أرشيفي أو باحث بالمؤسسة الأرشيفية نصب عينيه شعار -التجديد والابتكار
– ومن ثم التطوير لكل شيء في المؤسسة – فهذه المسألة حتمية، فالذي لا يتطور سيزول؛ لأن ميدان المنافسة لا يخلو من الفرسان، لذلك يجب توفير المبادرة لدى الجميع، وواجبٌ عليهم تقديمُ الجديد النافع للمؤسسة الأرشيفية التي تعد القلب النابض للجميع وليست لفئة معينة في المجتمع.
– المؤسسة الأرشيفية وكل من يعمل فيها نظام كلي واحد يعمل لتحقيق رسالتها الخدمية سواء تمثلت تلك الرسالة في البحث أو الإرشاد المهني أو التسويق المعلوماتي، وبالتالي فهذا النظام متعاون متكامل يعمل في نسق واحد، وكل من يعمل بالمؤسسة الأرشيفية – من رؤساء، مديرين، موظفين، عمال
– هم شركاء وليسوا أُجراء لتأدية خدمات مدفوعة، بل يجب على الجميع المشاركة في اتخاذ القرارات.- المرونةُ والحرية شعارُ العمل في المؤسسة الأرشيفية، فكل فرد هو سيد عمله ودوره الذي يؤديه، ومن ثم فهو مدير لوظيفة يتحمل مسؤوليتها كاملة، وهذا لا ينفي تبادلية العلاقة والتعاون الخدمي ولكن يعد ضبطًا للعمل وتحديدًا للمسئوليات حتي لا تتشتت التبعات ويصعب تتبع أسباب الخلل.- إن إدارة العمل بصورة ذاتية،
لا يعني الفردية المستبدة بل الجماعية الموجهة، فأعمال المؤسسة الأرشيفية تؤدَّى جماعيًا من خلال فِرَقِ عمل تُدار ذاتيًا من قِبَل أعضاء الفريق، فالأسلوب الفردي المركزي لم يعد له وجود في المنظمات المعاصرة،؛ لأن النهج الإداري الجديد هو الاعتماد على الذات في ممارسة المهام وحل المشكلات من خلال الرؤي الجماعية وتوافق المنهج.- الشعور بالمسؤولية الذاتية لدى الجميع مطلب أساسي، فواجب كل باحث أو مهني أرشيفي أن يبذل جهده في سبيل الحفاظ على أهداف المؤسسة وضمان الأفضل لها.
– الاستقرار الوظيفي مسألة يقوم عليها تحقيق الانتماء للمؤسسة الأرشيفية وغيرها من مؤسسات الدولة؛ فيجب إشعارُ الجميع أنهم أساس العمل بالمؤسسة الأرشيفية، وأنهم موضع ثقتها وهدف من أهداف التطوير والإفادة حتى بعد انتهاء الدور الإداري فلن تفقد المؤسسة خدمة المشورة المهنية والتواصل الإنساني مع من شكلوا واقعها المهني والتواجدي بالمجتمع. – التعلم والتدرب وتطوير الذات جزء وهدف أساسي ومستمر طوال حياة العاملين في المنظمة، ويجب أن يلمسوا مدى اهتمام المؤسسة بتطويرهم ذاتيًا ومهنيًا واجتماعيًا.
– تقييم الأداء البشري لم يعد تقليديا أو يعتمد على تحقيق المعايير المطلوبة فحسب، بل يسعى إلى تخطيها وتحقيق التميز في الأداء، فهو أساس البقاء والاستمرار والتفوق المهني.- يجب أن يخضع جميع العاملين في المؤسسة الأرشيفية لاختبارات العزيمة وتحمل المسؤولية في تحديات ومخاطر البيئة المحيطة، فشعارُهم الأساسي هو مواجهةُ التحديات.- المواردُ البشرية التي تحتاجها المؤسسة الأرشيفية اليوم تتطلب مهاراتٍ مختلفة ومتنوعةً؛ فالفرد الذي يمتلك مهارةً واحدة في مجال مهنة الأرشفة يجب أن يعمل على تطوير ذاته واكتساب خبرة كافية فيما يتعلق بمهنته والعلوم المساعدة لها كالتاريخ،
وعلم الخطوط، والنميات”النقود والعملات”وكذلك دراسة الأنساب وتاريخ البلدان هذا إضافة إلى أسس الترتيب، والوصف الأرشيفي، والتكشيف والاستخلاص، وتكنولوجيا المعلومات، ولا يشترط في العلوم المساعدة الإلمام بكافة الفروع المذكورة.-إن معظم الباحثين والمهنيين والممارسين في مجال الأرشيف قد اتفقوا على الوظائف الأساسية للإدارة التي يؤديها المديرون وغيرهم بالمؤسسات الأرشيفية ومعظم المؤسسات ..
مع اختلاف أنشطتها وتنوع مجالات أعمالها، مع الأخذ في الاعتبار فوارق التطبيق بين المؤسسات؛فالتخطيط، والتنظيم، وتكوين الكفاءات (التوظيف)،
والقيادة، والرقابة تعد الوظائف الأساسية للإدارة بأي مؤسسة.إن مستوى استراتيجية إدارة الموارد البشرية بالمؤسسات الأرشيفية هو استراتيجية إدارة الوظائف بها؛ كالأرشفة، وخدمات الحفظ والإتاحة، وخدمات تسويق المعلومات ..إلخ والتي يكوِّن مجموعُها استراتيجية المؤسسة الأرشيفية ونشاطها الثقافي والخدمي، ومن هذا المنطلق نجد أن وظائف وممارسات إدارة الموارد البشرية تعمل جميعها في خدمة استراتيجيات الإدارات (الوظائف) الأخرى بالمؤسسة الأرشيفية، أي تخدم استراتيجية المؤسسة، تحت مظلة التكامل والتوافق معًا.يتوافقُ الاتجاهُ السابق مع مفهوم يُدعى”التكامل الاستراتيجي” Strategic integration الذي يؤكد على أن استراتيجية المؤسسة تتوافق مع رسالتها، واستراتيجيات الهيكل التنظيمي (إدارات: الوصف الأرشيفي، والبحث والاسترجاع، إرشاد الباحثين، خدمات التصوير، والتسويق الألكتروني… إلخ)
تتطابقُ أيضا مع استراتيجية المؤسسة؛ لأنها تعمل على خدمتها، واستراتيجيةُ إدارة الموارد البشرية تتطابق وتعمل على خدمة استراتيجية المؤسسة واستراتيجية الهيكل التنظيمي العام، في ظل تأثير متغيرات البيئة الخارجية التي تعمل في ظلها المؤسسة ككل، وتستخدم استراتيجيتها للتكيف معها لتضمن لنفسها البقاء والاستمرار.مما سبق يتضح لنا أن بناء استراتيجية الموارد البشرية يتطابق ويتكامل مع:
– متطلبات استراتيجية المؤسسة بما تشمله من رسالتها، وأهدافها، ووسائلها.- متطلبات استراتيجية الهيكل التنظيمي (الإدارات المختلفة واحتياجاتها من الموارد البشرية ذات الكفاءة والفاعلية).ولتوضيح عملية التكامل الاستراتيجي يجب أن تقوم إدارة الموارد البشرية بوضع استراتيجية تتكامل وتتطابق مع استراتيجية المؤسسة الأرشيفية، تحتوي على الآتي:
1- توصيف وظائف جديدة، وتصميم برامج خدمية مستحدثة، تخدم وتتماشى مع واقع المؤسسة الأرشيفية مستقبلاً.
2- تحديد الاحتياجات التي تتطلبها المؤسسة لخدمة المستجد من الموارد البشرية،
مع تحديد حجم الموارد البشرية القديمة التي سيستغنى عنها نظراً لعدم توفر المهارات العالية فيهم، والتي يتطلبها سوق العمل الأرشيفي.
3- تصميم حملة استقطاب شاملة لسوق العمل، بهدف إيجاد وتوفير الموارد البشرية المتخصصة ذات الكفاءة والمهارة العالية، للاختيار من بينها؛ لتوظيفه في المؤسسة لتلبية حاجاتها الجديدة لمواجهة متطلبات سوق العمل وخاصة في ظل العولمة والتطور التكنولوجي
4- تصميم برامج تدريبية وتأهيلية مستخدِمةً في ذلك الوسائلَ والمناهج العلمية التدريبية الحديثة،
والمعرفة التكنولوجية المتقدمة في مجال صناعة الأرشفة الألكترونية والتوثيق وخدمات البحث والاسترجاع، وذلك للموارد البشرية الجديدة، وما ستبقي عليه المؤسسة من الموارد البشرية القديمة
.5- من الطبيعي أن تواجه المؤسسة الأرشيفية بعض العقبات في سبيل تنفيذ السياسات المستحدثة بالعمل وكذلك في تطبيق النظم الحديثة في تقديم الخدمات الأرشيفية، وقد يحتوي ذلك أيضًأ على مخاطر مختلفة عن المخاطر التي كان يحتويها النظام القديم، ومن ثم يجب على إدارة الموارد البشرية -وهي تقوم بإعداد استراتيجيتها- تضمينُها برامجَ سلامةٍ وصحة تتناسب والمخاطر الجديدة التي قد تتعرض لها الموارد البشرية ومتابعة التطور في برامج إدارة الأزمات ومواجهة تحديات العمل.مما سبق يتضح مدى تأثير نجاح استراتيجية إدارة الموارد البشرية في نجاح المؤسسة الأرشيفية، والتي يجب أن تكون الأولى دائما موضع اهتمام وعناية ودعم وخاصة إذا نظرنا بعين الاعتبار لأهمية المؤسسة الأرشيفية المصرية التي تمثل ذاكرة الأمة وما تحتاجه من عناصر بشرية تمتاز بقدرات فائقة في وضع وتطبيق سياسات العمل الأرشيفي المتطور في ظل هيمنة العولمة.وللحديث بقية……