بقلم/ د. عزة محمود علي
يحتل موضوع التراث الشفهي في تلك الآونة قدرًا كبيرًا من الاهتمام على كافة الأصعدة المصرية والعربية، كما نلاحظ انشغال الساحات الثقافية بالعديد من المحاولات الجادة لتسجيل هذا النوع من التراث المكمل للأحداث التاريخية المدونة بالكتب والروايات التاريخية.
ويُعتبر الموروث المصري الشعبي سواءً كان روايات وقصائد، عادات وتقاليد، أسلاف وأعراف غنيًا بعناصره المتعددة والتي أصبح بعضها مهددًا بالانقراض في بعض المناطق، الأمر الذي يدعونا إلى تجديد التأكيد على أهمية تدارك حالة الموروث الشعبي الشفاهي والحيلولة دون اندثاره، فمكونات الموروث الشعبي المصري هي نفس المكونات منذ مهد الإنسان من إيماءات وإشارات وأقوال وأفعال، وهو تراث وثقافة، أما مكونات التراث الشفاهي فهي كل ما هو روحي ويندرج تحت هذا الإطار من أدب شعبي، أغانٍ، عادات وتقاليد، أمثال، معتقدات ومعارف، طقوس دينية وشعبية وغيرها.
وسوف نتعرض في هذا المقال لأهمية الحفاظ على الموروث الشعبي وخاصة مايتعلق بالتراث الشفاهي بكل أنواعه، وحمايته مما يتعرّض له من ضياع، إما بالسيطرة الفكرية أو التشويه بسبب الغزو الثقافي والتطور التكنولوجي العالمي؛ الذي يعمل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على طمس الهوية العربية وتذويب معالم الشخصية العربية؛ فالفائدة من التراث الشفاهي لن تتحقق إلا بالتواصل في توريثه واستمرار الحفاظ عليه، فالاهتمام به أصبح ضرورة ملحّة وحتى يصبح التراث حيًا يحتاج إلى جهود للكشف عنه وإحيائه وإزالة المعوقات التي تقف وراء اندثاره.
فالتـراث الشفاهي المصري غني ومتعدد في أشكاله وأنواعه، فهو لا يأتي من اختلاف طبيعة المناطق جغرافيًا، واجتماعيًا فحسب، ولكنه يأتي في إطار المنطقة الواحدة، فترى منطقة صغيرة ذات إطار جغرافي محدد يحمل أنماطًا مختلفة للون واحد من ألوان التراث سواء كان في الشكل الفني أو مضمونه الإنساني، وذلك لاحتوائه العديد من الجوانب الحياتية للإنسان المصري، ومازال هذا التراث قائمًا إلى الآن حيث نشاهد جمال وروعة صوره المتعددة التي تتجلّى في القرى والأرياف وصعيد مصر والمدن الساحلية المصرية.
ومن هذا الموروث الشفاهي الأساطير واالروايات الشعبية، والأغاني، والمواويل، والأشعار، والأزجال التي تعبّر تعبيرًا حقيقيًا عن جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لمجتمع من المجتمعات، وتكمل في الدراسات التاريخية ما لم يكن له أن يظهر علي الساحة ويتصدر الدراسات التاريخية معلنًا حقائق لن يقبل الحكام والساسة إعلانها على الملأ.
و يظل البحث والاستقصاء عن وجوه الحياة القديمة في ربوع مصر أمرًا مهمًا على كافة الأصعدة، وخاصة ما يخص التراث غير المادي “الشفاهي”، الذي تحاول العديد من المؤسسات المعنية بالتراث حاليًا وعلي رأسها دار الكتب إطلاق يد الباحثين فيه من أجل جمعه وتوثيقه، فضلاً عن العديد من الجهود الفردية الطموحة التي تسعى إلى البحث عن منابع الموروث الشعبي الأصيل، ومن ثم استخراجها من أفئدة كبار السن، الذين عاصروا جزءً من الماضي التليد كمشاهير المؤرخين والكتاب والفنانين والسياسيين وغير ذلك، لأنهم شهدوا التحولات التي مرت بها مصر، لكن صورة الماضي الجميل الحبلى بالمفارقات والأحداث التي تمثل الواقع المعيش لم تزل في حاجة إلى جهود كبيرة من أجل الوصول إلى جوهر التراث المكنون في الصدور، وهو ما يستدعي إطلاق مبادرات كبرى تشمل مؤسسات وأفراد، وفق ما يراه خبراء التراث بالدولة، حاضين على تضافر الجهود لكي يعبر العديد من الباحثين عن استجابتهم الراهنة، وفق استراتيجيات فكرية تحمل رؤى وتصورات الآباء والأجداد الذين لا يزالون على قيد الحياة، بالإضافة إلى التفكير بجدية في تفريغ العديد من التسجيلات الحافلة بمعلومات تراثية تمثل انبثاق فجر الحداثة في دولة كانت ولم تزل صاحبة ماض عريق وحاضر مشرق.
استطاعت البيئة التراثية المصرية بطبيعتها المتجددة، ومفاهيمها الراسخة، وجمالياتها الإنسانية الرحبة، أن تمثل عوامل جذب حقيقية للباحثين الذين يتوقون إلى مزيد من المعرفة التاريخية عن حياة الأجداد، والطبيعة التي عاشوا في رحابها من دون تكلف أو مبالغة، وهو ما شجع الكثير من أبناء الدولة على الحفاظ على ما في حوزتهم من مواد تراثية استقوها من كبار السن، وبعضهم قرر أن يخلص للبحث والدراسة في ماهية الموروث الشعبي المصري، لكن تظل التحديات كبيرة، والتطلعات تسع المدى من أجل الغوص في الماضي، وسبر أغواره العميقة، لجمع التاريخ الشفهي وتوثيقه لكي تبرز صورة الموروث الشفاهي المصري بكل أبعادها ورؤاها الجميلة.
أما فيما يتعلق بركائز الموروث الشفهي:
فنظل نؤكد على أهمية جمع التراث الشفاهي وضرورة توثيقه في الوقت الراهن، واستثمار الذاكرة الحية لكبار السن الذين لا يزالون يتمتعون بالصحة والعافية إلى الآن فإن لم نفعل ذلك فإننا نفقد ركائز الموروث الشعبي والأحداث الدقيقة التي مرت بها الدولة في الماضي، خصوصًا وأن من تبقى من تلك الفئة في الوقت الحالي يعتبر قلة؛ وهم يحوون في صدورهم مرويات لها قيمة عظيمة من المؤكد أنها ستضيف جديدًا إلى محيط تراثنا الشعبي.
ونلفت النظر في تلك النقطة بالذات إلى أن الأجدر بإجراء اللقاءات والمحاورات مع كبار السن هم رجال البحث التراثي وأقطابه باعتبار أنهم أكثر قدرة على طرح الأسئلة ومحاولة استجلاء بعض الأحداث التاريخية المهمة المتعلقة بتاريخ مصر من كافة جوانبه، فمن المستحيل أن يسجل مع هذه الفئة أفراد ليس لديهم دراية كافية بموروثنا الشعبي.
ونضيف: «أن الجهود المؤسساتية لجمع التراث الشفهي تتمثل حاليًا في مشروع تبنته دار الكتب والوثائق القومية مع جهاز التنسيق الحضاري وصندوق التنمية الثقافية لجمع ما يتعلق بتاريخ المنشآت المعمارية والشخصيات الشهيرة بالقاهرة الخديوية كبداية لتوثيق هذا شفهيًا، ولأنها تمتلك المقومات كافة، خصوصاً وأن هناك العديد من الحكايات الشعبية التي لم توثق حتى الآن عن نشأة وتطور تلك المنشآت الأثرية ومن قطنها من المشاهير فضلاً عن أن المجتمع المصري يزخر بتنوع بيئاته ومناطقه وشعرائه أيضاً فضلاً عن اللهجات المحلية الأصيلة التي تعبر عن هوية أهل الدولة»، ونؤكد على ضرورة تكاتف كل الجهات المعنية بجمع التاريخ الشفهي عبر فرق عمل متكاملة من أجل التوثيق بطريقة علمية ناضجة. كاستخدام أجهزة الكمبيوتر وأجهزة التسجيل الصوتي والوسائل السمعية والبصرية الحديثة في العرض والتوثيق، وتوفير كوادر متخصّصة وخبيرة بالحفظ والتوثيق لتقوم علي رعاية هذا المشروع القومي.
وأخيرًا نقول: يظل الموروث الشعبي الشفهي الهائل بين جهد التوثيق والخوف من ضياع الهوية والعمل فيه يحتاج إلى متابعه متصلة ويحتاج إلى نفقات باهظة وإدارة جادة، يحتاج إلى أن يؤمن به القائمون عليه، يحتاج إلى الاستفادة من كل ما في العصر من تقنية يمكن استخدامها لجمعه وتوثيقه والترويج له.