بقلم/ أحمد الطحاوي
ثم ظهر الأمير منجك اليوسفي من اختفائه في بيت بالشرف الأعلى بدمشق في سنة إحدى وستين وسبعمائة بعد أن اختفى به نحو السنة فأخذ وأحضر إلى القاهرة فلما مثل بين يدي السلطان وعليه بشت عسلي وعلى رأسه مئزر صفح عنه لكونه لم يخرج من بلاده ورسم له بإمرة طبلخاناه بدمشق وأن يكون طرخاناً يقيم حيث شاء وكتب له بذلك توقيع شريف وفي هذه الأيام عظم يلبغا العمري في الدولة حتى صار هو المشار إليه وثقلت وطأته على أستاذه الملك الناصر حسن مع تمكن الملك الناصر في ملكه وكان يلبغا العمري وطيبغا الطويل وتمان تمرهم أعظم أمرائه وخاصكيته من مماليكه فما أن استهلت سنة آثنتين وستين وسبعمائة بلغ الملك الناصر أن يلبغا ينكر عليه من كونه يعطي إلى النساء الإقطاعات الهائلة وكونه يختص بالطواشية ويحكمهم في المملكة وأشياء غير ذلك وصارت الخاصكية ينقلون للسلطان عن يلبغا أموراً قبيحة في حقه في مثل هذا المعنى وأشباهه فتكلم الملك الناصر حسن مع خواصه بما معناه: إنه قبض على أكابر أمرائه من مماليك أبيه حتى استبد بالأمر من غير منازع وأنشأ مماليكه مثل يلبغا المذكور وغيره حتى يسلم من معارض فصار يلبغا يعترض عليه فيما يفعله فعظم عليه ذلك وندم على ترقيه وأخذ يترقب وقتاً يمسك يلبغا فيه واتفق بعد ذلك أن السلطان حسناً خرج إلى الصيد ببر الجيزة بالقرب من الهرمين وخرجت معه غالب أمرائه يلبغا وغيره على العادة فلما كان يوم الثلاثاء تاسع جمادى الأولى من سنة اثنتين وستين المذكورة أراد السلطان القبض على يلبغا لما بلغه عن يلبغا أنه يريد الركوب عليه هناك فصبر السلطان حسن حتى دخل الليل فركب ببعض خاصكيته من غير استعداد ولا اكتراث بيلبغا وسار يريد يكبس على يلبغا بمخيمه فنم بعض خاصكية السلطان بذلك إلى يلبغا فاستعد يلبغا بمماليكه وحاشيته لقتاله وطلب خشداشيته وواعدهم بالإمريات والإقطاعات وخوفهم عاقبة أستاذهم الملك الناصر حسن المذكور حتى وافقه كثير منهم كل ذلك والملك الناصر في غفلة استخفافاً بمملوكه يلبغا حتى قارب السلطان خيمة يلبغا خرج إليه يلبغا بمن معه وقاتله فلم يثبت السلطان لقلة من كان معه من مماليكه وانكسر وهرب وعدى النيل وطلع إلى قلعة الجبل في الليل في ليلة الأربعاء التاسع من جمادى الأولى من سنة اثنتين وستين المذكورة وتبعه يلبغا ومن معه يريد القلعة فاعترضه ابن المحسني أحد أمراء الألوف بمماليكه ومعه الأمير قشتمر المنصوري وواقعا يلبغا ببولاق وقعة هائلة انكسر فيها يلبغا مرتين وابن المحسني يتقدم عليه كل ذلك وابن المحسني ليس له علم من السلطان أين ذهب بل بلغه أنه توجه إلى جهة القلعة فأخذ ابن المحسني في قتال يلبغا وتعويقه عن المسير إلى جهة القلعة واشتد القتال بين يلبغا وابن المحسني حتى أردف يلبغا الأمير ألجاي اليوسفي حاجب الحجاب وغيره فانكسر عند ذلك ابن المحسني وقشتمر وقيل: إن يلبغا لما رأى شدة ابن المحسني في القتال دس عليه من رجعه عن قتاله وأوعده بأوعاد كثيرة منها أنه لا يغير عليه ما هو فيه في شيء من الأشياء خوفاً من طلوع النهار قبل أن يدرك القلعة وأخذ السلطان الملك الناصر حسن لأن الناصر كان طلع إلى قلعة الجبل في الليل ولم يشعر به أحد من أمرائه ومماليكه وخواصه وصاروا في حيرة من عدم معرفتهم أين توجه السلطان حتى يكونوا معه على قتال يلبغا وعلم يلبغا أنه متى تعوق في قتال ابن المحسني إلى أن يطلع النهار أتت العساكر الملك الناصر من كل فج وذهبت روحه فلما ولى ابن المحسني عنه آنتهز يلبغا الفرصة بمن معه وحرك فرسه وصحبته من وافقه إلى جهة القلعة حتى وصل إليها في الليل وأما أمر السلطان حسن فإنه لما آنكسر من مملوكه يلبغا وتوجه إلى قلعة الجبل حتى وصل إليها في الليل ألبس مماليكه المقيمين بالقلعة فلم يجد لهم خيلاً لأن الخيول كانت في الربيع وبينما هو في ذلك طرقه يلبغا قبل أن يطلع النهار وتجتمع العساكر عليه فلم يجد الملك الناصر قوة للقائه فلبس هو وأيدمر الدواداري زي الأعراب ليتوجها إلى الشام ونزلا من القلعة وقت التسبيح فلقيهما بعض المماليك فأنكروا عليهما وأمسكوهما في الحال وأحضروهما إلى بيت الأمير شرف الدين موسى بن الأزكشي أستادار العالية فحملهما في الوقت إلى يلبغا حال طلوع يلبغا إلى القلعة فقتلهما يلبغا في الحال قبل طلوع الشمس وكان عمر السلطان حسن يوم قتل ما يزيد على ثلاثين سنة تخميناً وكانت مدة ملكه في سلطنته هذه الثانية ست سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وكان قتله وذهاب ملكه على يد أقرب الناس إليه من مماليكه وخواصه وهم: يلبغا العمري وطيبغا الطويل وتمان تمر وغيرهم وهم من مشترواته اشتراهم ورباهم وخولهم في النعم ورقاهم إلى أعلى المراتب خوفاً من أكابر الأمراء من مماليك أبيه فكان ذهاب روحه على أيديهم وكانوا عليه أشد من تلك الأمراء فإن أولئك لما خلعوه من السلطنة بأخيه الملك الصالح حبسوه بالدور من القلعة مكرماً مبجلاً وأجروا عليه الرواتب السنية إلى أن أعادوه إلى ملكه ثانياً، وهم مثل شيخون وصرغتمش وقبلاي النائب وغيرهم فصار يتذكر ما قاساه منهم في خلعه من السلطنة وتحكمهم عليه فأخذ في التدبير عليهم حتى قبض على جماعة كثيرة منهم وأبادهم ثم رأى أنه ينشىء مماليكه ليكونوا له حزباً وعضداً فكانوا بعكس ما أمله منهم ووثبوا عليه وكبيرهم يلبغا المقدم ذكره وعندما قبضوا عليه لم يمهلوه ساعة واحدة وعندما وقع نظرهم عليه قتلوه من غير مشاورة بعضهم لبعض موافاة لحقوق تربيته لهم وإحسانه إليهم فكان بين فعل مماليك أبيه به وبين فعل مماليكه له فرق كبير واستولى يلبغا العمري الخاصكي على القلعة والخزائن والسلاح والخيول والجمال وعلى جميع ما خلفه أستاذه الملك الناصر حسن وكان الملك الناصر حسن سلطاناً شجاعاً مقداماً كريماً عاقلاً حازماً مدبراً سيوساً، ذا شهامة وصرامة وهيبة ووقار عالي الهمة كثير الصدقات والبرة ومما يدل على علو همته مدرسته التي أنشأها بالرميلة تجاه قلعة الجبل في مدة يسيرة مع قصر مدته في السلطنة وكان السلطان حسن محباً للرعية وفيه لين جانب حمدت سائر خصاله لم يعب عليه
في ملكه سوى ترقيه لمماليكه في أسرع وقت فإنه كان كريماً باراً بإخوته وأهله يميل إلى فعل الخير والصدقات وله مآثر بمكة المشرفة واسمه مكتوب في الجانب الشرقي من الحرم وعمل في زمنه باب الكعبة الذي هو بابها الآن وكسا الكعبة الكسوة التي هي إلى الآن في باطن البيت العتيق وكان كثير البر لأهل مكة والمدينة وكان السلطان حسن يميل إلى تقدمة أولاد الناس إلى المناصب والولايات حتى إنه كان غالب نواب القلاع بالبلاد الشامية في زمانه أولاد ناس ولهذا لم يخرج عليه منذ سلطنته بالبلاد الشامية خارجي وكان في أيامه من أولاد الناس ثمانية من مقدمي الألوف بالديار المصرية ثم أنعم على ولديه أحمد وقاسم بتقدمتي ألف فصارت الجملة عشرة فأما الثمانية فهم: الأمير عمر بن أرغون النائب وأسنبغا بن الأبي بكري ومحمد بن طوغاي ومحمد بن بهادر رأس نوبة ومحمد بن المحسني الذي قاتل يلبغا وموسى بن أرقطاي وأحمد بن آل ملك وشرف الدين موسى بن الازكشي الأستادار فهؤلاء من مقدمي الألوف وأما الطبلخانات والعشرات فكثير رحمة الله عليه إلى اللقاء في الحلقات القادمة من سير السلاط