كتب ياسر الشرقاوي
يقول الشاعر ناصر صلاح رئيس نادي أدب المطريى منذ نعومة أظافرى وبداية علاقتى بالشعر، أرنو دائما إلى قصائد الرومانسية الفصيحة وأفضلها فى كثير من الأحيان على قصائد الرومانسية العامية رغم أننى من المنتسبين إليها.
والرومانسية برئتيها الفصيحة والعامية من أهم خصائصها الغنائية أو بمعنى أدق الغرق فى موسيقاها الداخلية والخارجية سواء كانت عمودية أو حرة، وإن كان بعض العاملين بالموسيقى فى زماننا هذا لهم رؤى أخرى، وقيل من قبل أن محمد فوزى يمكنه تلحين كلام الجرائد.
والرومانسية كانت من أغراض الشعر القديمة بما يسمى “الغزل” وإن كان البعض مازال يفصل بين الغزل والرومانسية على أساس أن الغزل هو التغزل فى الحبيب وأوصافه، بينما الرومانسية هى وصف مشاعر الحبيبين، ولكنى ممن لا يفرق بينهما وأضعهما فى قالب وقلب واحد، ارتويت منها على يد ابن نباته ومن قبله جميل بثينه ومن بعدهما نزار وفى عصرنا الكثير وإن لم يحظوا بما حظى به الأولون على سبيل المثال لا الحصر عصام الغزالى وإيهاب عبد السلام وياسر أنور ومن على نهجهم الرومانسى.
وكانت دائماً اشكاليتى فى الصراع بين حرية المبدع وبين أخلاقه، وكيف يقدم كتاب الرومانسية عواطف ومشاعر وأحاسيس وأوصاف دون أن يقعوا فى مشاهد “إباحية”.
هذه المقدمة التى قد يختلف أو يتفق معها البعض، كانت حروفاً حائرة ألتمس منها بابا للدخول إلى ديوان “قبلة مؤجلة” للمبدع الصديق محمد حافظ، حافظ والذى أعترف أنه كان من أكثر الدواوين التى اشتقت للكتابة عنها منذ عام ويزيد، ومن أكثرها إرهاقاً ذهنياً فوق ما كنت أعانيه فى تلك الفترة، لذا تأجل كثيراً جمع ما دونته حوله، وكانت المفاجأة القاتلة أن الصفحات التى دونتها وتخطت العشر صفحات فى نوتة متوسطة الحجم لم أجد منها إلا صفحة وبضعة أسطر فى لغز لم أستطع حل شفرته إلى الآن.
المهم أن ديوان محمد حافظ بعنوانه الرائع البسيط العميق منحنى الكثير من التساؤلات:
أولها: هل محمد حافظ هنا امتداد لشعراء وعشاق بنى عذرة وهم من نسب إليهم الحب العذرى، لقد كان غزلهم مفعم بالنقاء والطهارة والرقة، وقال أحدهم “أنا من قوم إذا عشقوا ماتوا لأن فى نسائنا جمالا وفى رجالنا عفة”، وسئل عروة صحيح أنكم أرق الناس قلوبا؟ فقال: والله لقد تركت ثلاثين شابا خامرهم الموت ومالهم داء إلا الحب.
ثانيها: هل الديوان دفقة شعورية عن تجربة حقيقية جلية المعالم فى بعض القصائد حتى تكاد تلمس بيديك ما صورته أخيلتك بكاميرا حروف المبدع رغم بعض القصائد التى كان الوطن حاضراً بأحداثه وربما بشخوصه فى فترة من الفترات الهامة والحرجة.
ثالثهما: أنَّى لمحمد حافظ هذا العنوان المراوغ أو على رأى شخصية اللمبى الشهيرة (اتنين عكس عكاس) فهو “قبلة مؤجلة” .. إذ كيف للقبلة التى هى نتاج انفجار الحواس وسخونة المشاعر أن تكون مؤجلة بما تحوية الكلمة من برودة وصبر؟ كيف يجتمع البركان والثلج؟ فى عنوان واحد وموقف واحد، حتى أن مصمم الغلاف أصاب حين جمع بين الشمس والبحر فى قلب .. ربما وصل لما أعنيه هنا؟!.
تعالوا نحاول أن نجد إجابة لهذا التساؤل بين أحرف المبدع الكبير محمد حافظ:
من الإهداء تبدو معالم تلك الإجابة:
سجا القلب يا فاتنى فاحتملنى
على رعشة من يديك ومنى
ودعنا نحلق والروح هيمى
ونقطف من موريقات التمنى
يجيب المبدع على سؤال المفارقة بتوليد الأسئلة داخل المتلقى، إذ كيف سكن القلب ومازالت باليد رعشة، هنا إجابة التأجيل بالبيت الثانى بدعوته لمحبوبه أن يحلق بعشق الروح ويصبِّر نفسه بالتمنى إلى أن يحين وقت اقتطاف الثمار، لقد أتى بستار النهاية من البداية كالأفلام المصرية القديمة التى تتوقع نهايتها من أول مشهد، لكنه ربما كان إجمال المعنى أو إشارة سريعة له وسيبدأ فى سرد أدلته ومبرراته داخل نصوص الديوان.
نعم فمعظم المعانى فى الديوان تدور حول الصراع بين الرغبة والعفة بين المرغوب والممنوع بين المفروض والمؤجل ثنائيات كثيرة حتى فى استشهاداته من التراث، حتى حين عرج على الثورة وأحداثها مرورا سريالياً يقبل التأويل نسبة لنظرية السريالزم فلم تأت كلمة ثورة قط لكن الحروف والمعانى المشتعلة تكشف هذا.
حتى فى قصيدته الأولى “مكالمة خطأ” يجسد هذا الصراع الذى اتشبث به خيطاً فى هذا الديوان:
خطأً طلبتُكَ هل صحيح..أم أنه القلب الجريح
حَطَمَ الجسور آتى إليك..على جوادك يستريح
ويفضفض الآلام من جسد ترنح كالذبيح
خطأً طلبتِ فليته.. ما أعذب الخطأ الصريح
حتى مجرد المهاتفة التى قصدها مراوغا بأنها غير مقصودة لكنه يعترف أوجد الصراع فيها بين (القلب الجريح) وبين (على جوادك يستريح) كيف يستريح الجريح على جواد جريح مثله وإذا جرح الجواد يكون فى بعض الأحيان أكثر سرعة واندفاعاً وهلعا لكنه كما قال فى نهاية النص (ما أجمل الخطأ المؤانس للجريحة والجريح).
وتأتى القصيدة الثانية “فؤادة” رغم رمزيتها السياسية الواضحة التى تذكرنا بقصة فيلم (شىء من الخوف) وصراع البطلة بين عشقها للبطل وعشقها للوطن، لكن فى الحقيقة النص لم يقف عند ثنائية الصراع تلك فقط بل تخطاها فى كل بيت الى ثنائية جديدة توحى بالصراع بين المرغوب والممنوع بين الرغبة والعفة كما سنرى:
لى قلب عنتر غير أن يدى.. لا سيف تحمله ولا أرماحا
مباشرة يحيلنى كمتلقى إلى أبيات عنترة الشهيرة فى عبلة:
ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ منى وبيض الهند تقطر من دمى
فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم
وهى أيضا نوع من الصراع والفروسية والشجاعة والعشق وهى ثنائية أيضا ثنائية العشق والفروسية.
نعود لمحمد حافظ وقصيدته:
خمر ابن كلثوم تراودنى فأهب أكسر دونها الأقداحا
وهنا يحيلنا الى وصف هذه الخمر العجيبة فى معلقة عمرو وأثارها وثنائية العلاقة بين عمرو وبينها.
قيس وليلى فى الهوى كتباً أدمنت أسطرها وعشت جراحا
أيضا تلك الثنائبة الأشهر.. العشق بين قيس وليلى والمنع من العم لتلك العلاقة.
تأملوا الأمثلة والحكايات الشهيرات التى ذكرها المبدع هنا ولكل قصة صراعها وثنائيتها، ثم يبث شوقه ولوعته فى عدة أبيات ثم يرنو للتمنى الأمل:
هذى شواهدنا هلال منى متلهفات ترقب الإصباحا
ثم يختم القصيدة ببيت رائع يحمل ثنائية التأويل:
من غلق الباب الموارب لا.. لم يستطع أن يسرق المفتاحا
ثم تعالوا إلى نصٍ أكثر من رائع يجسد هذا الصراع بين الرغبة والعفة “غواية” نص اتكأ على قصة قرآنية استطاع المبدع أن يبرز الصراع من خلاله بإبداع مدهش زادها سحرا تلك القافية (الكاف الساكنة) .. فتعالوا نستمتع بالنص دون أية إضافات:
لم تُغلق حين قالت هيت لك .. فالتقى القلبان دون المنسلك
حمرة فى العين نار فى الحشا .. تهلكان الروح فيمن قد هلك
عابرا كنت وفى الأفق صدى .. بات يدعونى بصوت مرتبك
هدهد الأشواق إنى تربة .. من قديم لم تقلب أو تحك
فإذانا بشر فى بشر .. تاركاً فى الخلف آثار الملك
لم تكن حواء لما لم أكن .. “آدم” المرجو وسط المعترك
لم يكن ثمة تفاح زها .. يملأ النفس فخاخاً وشرك
لم يكن إلا دبيب من لظى .. بين جنبينا ولما نشتبك
وقميص وبقايا عروة.. نصفها فكت ونصف لم تفك
هذه السكين هذا المتكا .. حيلة الأنثى .. اقتدارا تُحتبك
ثم نأتى لقصيدة الديوان “قبلة مؤجلة” وفى بيتها الأول ينهى محمد حافظ جدل الصراع ويجيب على السؤال كيف للبركان والثلج أن يجتمعان:
لك قبلة من أمس أمس مؤجلة .. سبحان من غل الفؤاد وكبله
هنا تنتهى الحيرة وتوقف الأسئلة واتضح المعنى (سبحان من غل الفؤاد وكبله).
لو قبلة لعرفت أين حدودها .. لكنها دنيا وأولها الوله
ما بين بين مراوغات دونها .. قبلٌ أتت فى لحظة مستعجلة
وتظل تأخذنى النهاية كلما اقتربت خطانا ازداد حجم المشكلة
هى أسباب ومحاذير يخشاها المبدع فيسردها لعل محبوبته تقتنع بما وراءه من غايات نبيلة.
تعالوا لهذه الصورة البديعة التى تشى بقدرات محمد حافظ وتدل على امتلاكه لعبقرية الموهبة:
يا كلما رغب الفؤاد تلاوة لهواك زل وفر حرف البسملة
فيفر للحرف الأخير مراوغا عيناه فصلتا الذى كم أجمله
محمد حافظ يدهشك مع كل لقطة وكل حرف فى هذا النص تعالوا نرى الصراع والمراوغة فى لقطة أخرى رائعة:
أنا لا أحبك هل سمعت صدى الفؤاد أعاده أنى أحبك بدله
أيخوننى .. أم أننى الملتاع يخفى شوقه ويحب أن يتسوله
القلب يكذب قوله المراوغ.. إذ كيف لا يحبها كيف؟ تأتى الإجابة:
أنا لا أحبك مثلما ترجين يا قلباً تفننه الزمان وأجمله
فإذاه بيت فى قصيد مبهر .. عجز البيان جميعه أن يكمله
ثم يأتى المبدع فى نهاية النص بإجابة جديدة عن التساؤل المحورى كيف جمع بين البركان والثلج فى (قبلة مؤجلة):
لا أنت من مس الفؤاد ولا أنا .. بل مسنا شرع أباح وحلله
فتوضئى بالحب بين أناملى .. واستفتحى ما ثم غيرك أوله
فى الحقيقة بعد أن تتيه فى خمرة هذا العسل المذاب من نهر عذب لن تتمكن من الوقوف إلى سكر باقى قصائد الديوان.. لكن تعالوا نقتطف بعض قطراته.
فمن “سنبلة شريدة”ومحاولة استنهاض الأمل والحياة لديها وأظن أنها أقرب لمحاورة اللغة العربية:
يا أيها اللحن الذى عزفته أهداب السماء برقة مشهوده
يُلقى على وجه الحياة تبسماً ويذيب من نبض الزمان جليده
وقصيدته “لاصبر ولا تصبر” الذى أحالنى – أحد أبياتها حيث يقول:
عيناك باب العشق فى أفقيهما .. رمش يداعبنى وأخر يهجرُ
إلى بيت نزار فى رائعته (أنا متعب بعروبتى) حيث يقول:
إنى لأشعر بالدوار..فناهدٌ لى يطمئن وناهدٌ يرتاب
أردت من ذكر بيت نزار رغم اختلاف محور نصه عن محور نص حافظ أن أضع اجابة لإحدى الأسئلة المطروحة فى بداية المقال وهو الصراع بين حرية الإبداع وأخلاق المبدع وفى تلك الحالتين السابقتين يبقى الإبداع رائعاً ولكلٍ مذاقه الخاص لكنى ورغم محبتى لنزار وشهادتى له أنه أحد أمراء الشعر الكبار فى تاريخ الشعر العربى – وكم جادلت (أبو همام) رحمه الله فى ذلك – انتصر لحياء المبدع وأخلاقه ما دامت لم تحجب جماليات إبداعه.
ومن قصائده الشامخات بالديوان “ولادة” تأملوا كيف لعب المبدع بمهارة ومشاعر دافئة بثنائيات المعانى والشخوص وكيف ينتقل بسلاسة من الجو الخاص برموز زمنها الى الجو العام لزمننا هذا ليصنع معادلاً موضوعياً عريضاً جدا فى مساحته:
يا ابن زيدون أين بنتم وبينا .. أين نونية وأيناك أين
قرطبة الشعر منذ أبعدت عنها .. تقرأ الكف فى صحائف وسنى
كيف والحب فى جدائل خوف .. تلثم الزهر أو تداعب غصنا
يطلب الناس للحوائج إذنا .. ويح قلبى هل يطلب الحب إذنا
تأملوا الصور البكر عند محمد حافظ، تأملوا جمال التراكيب التعبيرية القائمة على أعمدة الإستفهام التعجبى وتجعلك تصيح من داخلك الله الله الله:
مت قلبا فبالرصافة ريمٌ .. حوله الصائدون لم يلق عونا
كل وجه بها عيون رقيب .. كل دور بها تشابه سجنا
والضحايا دع عنك هذى الضحايا .. صادق الحب ليس يعرف جبنا
إن بالديوان نصوص كثيرة تحتاج الوقوف إليها والطواف بها وتحتاج منا مئات الأوراق لكن دعونى انتقل سريعا من “قبلة مؤجلة” إلى “ثورة مؤجلة” نعم ففى بعض قصائد الديوان وخاصة الأخيرة يأخذنا المبدع إلى ما أسميته بالثورة المؤجلة رغم أن عنوان إحداها(وجاءتنى على استحياء) وهذا العنوان من براعة البيان وعبقرية الموهبة ومراوغة ربما لم تك مقصودة لكنها وقعت:
وجاءتنى على استحياء
وكان الوقت يرسف فى قيود الليل
وثمة رجعة تنساب فى الأجواء
توسع هوة البين
أراود ما تبقى الآن من يومى ومن أمسى
أوزع من هموم الأهل من كأسٍ الى كأس
ومن مقطع آخر كأشعة المسح الذرى يكشف كل شىء ببساطة وعمق:
وغابت مثلما جاءت على استحياء
ولم أسمع لها قولاً
ولم ألمح لها ظلاً
كأن الأرض ما شهدت لها أثرا
ورحت أجوب فى الطرقات
أدفع خطوتى خطوة
ويرجعنى المدى أخرى
تريدون دليلاً آخر على ظنى بالنص تعالوا:
فلا تأسوا إذا ما اشتدت الأحزان
فهذى جولة أولى
ومازالت لنا جولات
نقوم نواجه التيار
نوقف زحفه الأعمى
نرد خطاه
نص بسيط لكنه ردنا إلى نار أخرى مؤجلة بخلاف نار القبلة ردنا الى نار الثورة ولذا كانت قصيدته فى ختام الديوان “ربيع اللقاء” والتى كانت هم الأمة وليس هم الوطن فقط وأذكر منها قوله:
تعالى لنرفع هامتنا للسماء
نصد الرياح التى زمجرت
فلسنا كما قيل عنا هواء
فقاقيع ماء
دخانا تربى على الترهات
وكذا فى قصيدته “أبا الطيب” والذى أسقطها على واقع أعم وأشمل من وجهة نظرى واقع الشعراء ويكفى أن نقرأ خاتمتها:
أتراك تجيء بشعرك تركض فى صحراء الشعر الثكلى
منذ ارتعش القلم الحر على الصفحات
وخاصم فيه نداء الحبر نداء الروح
تنكَّب قبلته الأولى!
أتراك تجيء
إن محمد حافظ فى هذا الديوان كالبركان تفجر شعراً وحساً .. إبتعد عن المعلبات والمستهلكات والمعجنات ووجبات (التيك اواى) وقدم لنا وجبة دسمة مشبعة بمذاق خاص جدا وكأنها البهارات الهندية الشهيرة والشهية وروائحها التى أشعلت الزمان والمكان بعبيرها الألق النفاذ إلى الأرواح والقلوب والعقول، محمد حافظ هنا يعيد اكتشاف نفسه ويجد داخله مخزن الموهبة ومارد الإبداع أو ملاكه كما كان يعشق قول ذلك عبد الحميد فارس رحمه الله.