الكوتاب بين الدراما والحقيقة
بقلم/ سحر محمد..
عندما يقال أمامنا كلمة كوتاب فيتبادر مباشرة إلى ذهننا ذلك الرجل كبير السن الكفيف ذات الملابس المهرولة والذقن الطويلة المبعثرة والعصا التى يمسكها فى يده وهو جالس على مصطبة وأمامه مجموعة أطفال يجلسون على الأرض ويقوم كل طفل بإعطاء ذلك الرجل والذى يقال له شيخنا بعض الفطائر أو بيض أو قطعة من الجبن أو ماشابه ذلك، ومن لم يعطيه شيئا فيوبخه شيخنا بأحط الألفاظ .
هذا هوالكوتاب الذى صورته لنا الدراما، فما هو الكوتاب فى الحقيقة ؟ هيا بنا نقوم برحلة فى تاريخ الكوتاب لنعرف سويا الفارق بين الدراما والحقيقة فلنبدأ:
عندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بدأ بوضع الأساس الذى قامت عليه الحضارة الإسلامية، فكان أول بناء قام به الرسول صلى الله عليه وسلم هو بناء المسجد، ولم يكن ذلك المسجد مجرد مكان للعبادة وإقامة الصلاة فقط إنما كان المؤسسة التى إستوعبت نشاط المسلمين المتعددة الأوجه؛ فهو بيت الله الذى يقام فيه الصلاة وتلاوة القرآن الكريم، وهو دار القضاء الذى يجلس فيه القضاه ليحكموا بين الناس بما أنزل الله، وهو مقر الحكومة، كما أنه دار العلم الذى يلتقى فيه المعلمون والمتعلمون ليتدارسوا أصول دينهم وأركانه ويتدبروا القرآن الكريم وأحكامه .
وكان هذا الأساس الذى قامت به جميع المدن والبلدان الإسلامية التى تم فتحها وبإزدياد أعداد الداخلين فى الإسلام تعددت المساجد فى تلك المدن والبلدان وأصبح لا يكتفى بمسجد واحد فى المدينة الواحدة وإنما كثرت المساجد وتقاربت ، منها ينطلق الآذان وفيها تؤدى الصلوات وفيها تقوم باقى النشاطات مما أدى إلى تتداخل الأصوات فأثار ذلك إستياء بعض أهل العلم والمعرفة فدعت الضرورة إلى مولد مؤسسات أخرى متنوعة الأغراض تنهض بخدمة المجتمع وتخفف العبء عن المساجد، وكان من بين هذه المؤسسات الكتاتيب (أو المكاتب ) لتعليم وتأديب الصغار، وكان الكوتاب عبارة عن حجرة فوق سبيل الماء له واجهه بارزة متماشية مع الجزء السفلى من البناء وبها أعمدة وعقود من الحجر أو الخشب أو كليهما معا.
وقد لجأ كثيرا من الناس بما فيهم الملوك والأمراء إلى بناء الأسبلة وفوقها الكوتاب ووقف هذه الأبنية لوجه الله تعالى وكانوا يوقفون على هذه المبانى الكثير من المال، فإننا نجد كثيرا من وثائق الوقف الموجودة فى دور محفوظات الوثائق يقوم الواقف بتحديد المبالغ التى تصرف على الكتَّاب، كما يحدد الراتب الذى يتقضاه كلا من شيخ الكتَّاب ومساعديه والعاملين فى الكتَّاب، كما يحدد الراتب الذى يأخذه كل طفل نظير تعلمه وبذلك نجد أن الأطفال الذين كانوا يتعلمون فى الكتاب يتقاضون أجرا على ذلك وليس هم الذين يدفعون ثمن تعلمهم.
وقد وضعت القوانين والقواعد التى تنظم عملية التعليم فى الكوتاب، ومن هذه القواعد الشروط التى يجب أن تتوافر فى شيخ الكوتاب حيث كان لابد أن يكون ملما بتعاليم الدين فليس فقط حافظا للقرآن الكريم إنما يكون بارعا فى الفقه وفى الشريعة والنحو والأدب بالإضافة إلى معرفته باللغة العربية وقواعدها. كما كان لابد أن يتمتع بحسن الخلق وطيب السمعة حيث أنه يكون قدوة حسنة للطلاب فى جميع أقواله وأفعاله وتصرفاته . فلم يكن التعليم فى الكوتاب مقصورا على حفظ القرآن الكريم فقط إنما كان يتم به تعلم القراءة والكتابة بجانب التعاليم الدينية وكذلك تعلم الآداب العامة وغرس القيم الإسلامية والأخلاق الحميدة فى نفوس التلاميذ، فكان التعليم فى الكوتاب بمثابة التعليم الإبتدائى فى الوقت الحاضر.
فهل كان هذا هو السبب فى إنتشار الأخلاق الحميدة والآداب والذوق فى تلك العصور حيث يقول المثل التعلم فى الصغر كالنقش فى الحجر؟