النهضة العربية الحديثة … من أوهام النجاح إلى حقائق الفشل

94143577 3091202444276144 1298901288309751808 n

إمضاء : الأستاذ الدكتور بومدين جلّالي

انطلقت بوادر النهضة العربية الحديثة في القرن التاسع عشر للميلاد واستمرت وتوسعت تلك البوادر طوال ثلثي القرن العشرين محققة بعض المنجز المكسو بأوهام النجاح أكثر من النجاح نفسه ، وكان الانطلاق من مصر والشام ثم عمّ تدريجيا معظم الأصقاع العربية إلى أن بدأ هذا المسار النهضوي في الأفول مع نكسة 1967 ثم اختفى بشكل يكاد أن يكون جذريا مع نهاية الألفية الثانية ومطلع الألفية الثالثة بتجليات الإرهاب الممنهج والإرهاب المضاد، وتفشي الحروب الخارجية والحروب الأهلية، وبروز التخلف والفوضى في جميع قطاعات الحياة، وتفكك المجتمعات والدول في مشارق بلاد العرب ومغاربها.
ولنا أن نتساءل الآن عن ماهية العوامل التي صنعت أوهام النجاح ثم تطورت تدريجيا إلى حقائق للفشل الذريع الذي وصل إليه العرب بعدما اعتقدوا أنهم قاب قوسين أو أدنى من بداية مشاركتهم الفعلية في الفعل الحضاري العالمي الحديث.
العوامل المقصودة كثيرة جدا، ومتنوعة بتعاقب الأزمنة، ومتعددة بتعدد البلدان العربية من الخليج إلى المحيط، والقليل منها مشترك وهو الذي نتج عنه ما أدى إلى الطريق المسدود الذي نحن فيه، ومن أهمه ما يلي :
أولا : المنطلق غير السليم
بعد جمود طويل إثر الزمن الذهبي القديم؛ فكّر بعض الأعلام بشكل انفرادي حين البدء في حراك نهضوي يجعل الأمة تستعيد مكانتها الحضارية. وما نما قليلا ذلك التفكير حتى انقسم الأعلام وفق تصوراتهم للنهوض إلى فريقين مختلفين في النظر والمنطلق والغايات، أولهما شعبيُّ التمركز دينيُّ التوجه عربيُّ النظر، والثاني سلطويُّ التمركز لادينيُّ التوجه غربيُّ النظر، وبعد مدّ وجزر انحصر الأول في الأوساط الشعبية المحافظة والمحاطة غالبا بالفقر والتهميش وتمركز الثاني في السلطة ونخبها وأصبح في يده وحده صناعة القرار النافذ والقيام بالتخطيط المناسب لهواه والملائم لإملاءات الغرب المهيمن … وهكذا سقط منذ التجلي التأسيسي للنهضة دور الشعوب العربية برمتها من القيام بأي دور فعّال في صناعة القرار والمشاركة في التخطيط والتسيير، ولم يترك النافذون التغريبيون اللادينيون لها إلا دور الأجير المؤقت بمقابل لا يتجاوز غالبا الحد الأدنى للقوت اليومي بالإضافة إلى مهمة التصفيق لهذا والتبجيل لذاك من المكلفين بالمهمة التحديثية التغريبية وفق إرادة الغرب الاستعماري من وراء الستار والتي تمت مسرحتها لتظهر أنها إرادة المستنيرين من أهل البلاد، ومن أبى القيام بهذه المهمة أو نقدها فهو متخلّف حينا ورجعيٌّ حينا وخائن حينا وإرهابيٌّ حينا.
ثانيا : شبه القطيعة مع الأنا التاريخي
مما ترتّب عن تهميش الفريق الأول – الممثل لانتماء الشعوب العربية والمعبر عن طموحاتها المشروعة – وسيطرة الفريق الثاني – الممثل لأهداف الغرب والمعبر عن تطلعاته الاستعمارية – ظهورُ قطيعة تتراوح بين التمويه المؤقت والإعلان الجهري الرسمي مع مكونات الأنا الجمعي للأمة كلها، وذلك بمراعاة المرحلية والتدرج وانتهاز الفرص واعتماد التغليف الماكر والمراوغات المدروسة التي يتطلبها كل فعل … وكان التعدي على اللغة العربية والدين الإسلامي والوحدة الانتمائية الحضارية للأمة بالتوازي مع التعدي على التاريخ والجغرافيا والثروات … حوصِرت العربية الفصحى بسوء تدريسها وتقديم اللغات الغربية عليها وتزكية لهجاتها الدارجة واصطناع مصادمتها مع لغات الأقليات التي تعايشت معها طويلا … وشُوِّه الدين الإسلامي بالتلاعب بشريعته وتنمية مذاهبه وطوائفه المتصارعة واعتماد الفكر الإلحادي لمواجهته … وقُسِّمت الوحدة الانتمائية الحضارية إلى أعراق وأجناس متعارضة متحاربة … وزُوِّرت حركة التاريخ وأحداثه وأهدافه ورموزه … وشُرْذِمت الجغرافيا الواحدة إلى دويلات متطاحنة من غير سبب وجيه يُذكر … ونُهِبت ثروات وجه الأرض وباطنها … وهكذا تفتّت جميع الثوابت الصانعة لتماسك الأمة كما ألغي أمل الشعوب في الوصول إلى مصالحها مستقبلا.
ثالثا : الانبهار بمساوئ الآخر المختلف
بالتوازي مع القطيعة التي جعلت الأنا الفردي والجمعي على مستوى الفئات الشعبية العريضة يشعر بالغربة والتغرب والاغتراب والتغريب وهو في أرضه وأرض أسلافه؛ راحت النخب المتسلطة على العباد والبلاد تعرض نماذجها العليا التي يجب الاحتذاء بها أو تقليدها مباشرة، فمن الفنون العارية إلى رموز الإلحاد إلى الفكر العلماني المعادي للدين والقيم إلى الوجوه الاستعمارية التي قهرت العروبة والإسلام إلى كل أنواع الشذوذ والإباحية إلى غير ذلك من المسميات التي تقضي على روح الانتماء إلى حضارة الشرق وخصوصيته وثقافته وقيمه القادمة من جذور تاريخه، وحدث هذا العرض في المؤسسات التعليمية والتثقيفية والإعلامية والاقتصادية والترفيهية وسواها، وكان حدوثه بطريقة انبهارية تعتمد على تقديس المدنس من أجل تدنيس المقدس …والأمور الغربية الوحيدة التي لم يتم لا عرضها ولا حتى التأمل فيها باهتمام واحترام هي ديمقراطية الحكم ورصانة البحث العلمي وانعدام الفساد في الاقتصاد والتسيير وفخامة النظام العام في الغرب وامتداداته واستقلال العدالة وما يجري هذا المجرى لأن ذلك لا يناسب شراهة العملاء ووحشيتهم ولا يتماشى مع مخططات المركز المهيمن على الأطراف الخاضعة لتبعيته، بخاصة إذا كانت مختلفة اختلافا جذريا عنه ولها من الإمكانات ما يؤهلها لمنافسته إذا كان مسارها التطوري صحيحا سليما.
رابعا : خيانة النخب النهضوية
النخب الرئيسة الرسمية المقررة أو المؤثرة في القرار النافذ – بدْءً بالسياسية وانتهاءً بالثقافية – خائنة بامتياز، ونخب الدرجة الثانية المكلفة بتطبيق القرارت فهي تتأرجح بين الخيانة التي لم تبلغ الامتياز بعد وبين النفاق ولحس الأحذية من أجل المصلحة الآنية وبين الغباء بصورة من صوره المتعددة …
خيانة النخب الرئيسة تتجلى في تآمرها مع الآخر المختلف المهيمن والمعادي لكل تطور إيجابي يحصل عند العرب وقبولها لتلقي التعليمات منه دون قيد أو شرط باستثناء ما له علاقة بشراهتها ووحشيتها، وهي تعلم علم اليقين أن هذا التوجه سيدمر مستقبل الأمة …
وخيانة النخب الثانوية المساعدة للرئيسة تتجلى كما يلي … فهي عند الذين لم يبلغوا درجة الامتياز بعد مجرد مسألة وقت لأن هذه الفئة على اطلاع بكل صغيرة وكبيرة من واقع الخيانة العظمى وهي فقط من ستصعد لمصاف النخب الرئيسة وتواصل مهمة التدمير … وهي عند فئة أهل النفاق ولحس الأحذية مجسّدة في الانتهازية والوصولية والاعتماد على الرُّشى والعُصب والجهوية في الارتقاء بكفاءة مهتزة أو منعدمة بغية نهب ما هو قابل للنهب بمرضاة النخب الرئيسة المستغِلة لهذه التصرفات الفاسدة على مستوى الفاعلين لها بإذلالهم واستثمار طاقاتهم في المهام القذرة وعلى مستوى عامة الجماهير المستضعفة بحصارها داخل ضباب هذة الفئة الزئبقية التي لا يُعرَف لها مدخل ولا مخرج بوضوح لا سراب فيه … وعند فئة الأغبياء سياسيا بصورة خاصة، والتي تتميز في الغالب ببعض الكفاءة التكوينية والمهنية كما تتميز أيضا بشيء من المصداقية والنزاهة داخل المجتمع، فالخيانة لا تتمثل في التآمر على الأمة ولا في النهب والفساد ولا في المهام القذرة وإنما تتمثل في سذاجتها التي جعلتها وسيلة لتلميع بعض الجزئيات من مكونات أنظمة الخيانة العظمى فتمتص صدمات الغضب الشعبي مؤقتا بزرع أوهام النجاح واحتمال تحَسُّن الأحوال مستقبلا، من غير أن تدري أنها مجرد وسيلة مبرمجة لهذه الغاية الماكرة دون سواها.
خامسا : العجز عن إيجاد مخرج
هذه العوامل مجتمعة وغيرها من العوامل الخاصة بكل قطر وعصر تشابكت بإتقان تم التخطيط له في الغرف الغربية السوداء وتساعدت بتوجيهات النخب الرئيسة التي لا تظهر في صورتها الكاملة الخطيرة إلا في لحظات نادرة من مسار التاريخ مثل ماحدث في مقاومات الاستعمار البغيض والتشكيل الحقيقي للفعل الإرهابي الممنهج وكوارث الربيع العربي وغير ذلك من الأحداث السياسية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي نخرت معظم الطاقات التي كان بإمكانها أن تصل بالعرب إلى بر الأمان … وبعد التشابك والتساعد سارت بدقة نحو صناعة النكسة الكبرى ثم تطورت إلى مستوى جعل آمال النهضة العربية الحديثة تتبخر أملا بعد أمل وتصل إلى طريق مسدود …
سادسا : تدمير الأنا بحثا عن الحل
بعد وضوح هذا الوضع الكارثي العام الذي لا ينكره إلا معتوه لا عقل له أو جاهل معزول عن الوجود بجهله المطلق؛ لقد استفاق كثير من العرب من غيبوبتهم الطويلة وتأكدوا أن الخديعة أمر دُبِّر بليل منذ زمن بعيد. وبما أن الاستفاقة جاءت متأخرة وغير مدروسة، وهي عبارة عن رد فعل عاطفي فوضوي وليست فعلا مؤسَّسا يبحث عن تغيير إصلاحيّ مؤسَّس؛ دخل العرب في شبه انتحار جماعي بدولهم وحكوماتهم وشعوبهم.
مست هذه النفسية الانتحارية اللا معلنة لفظا والمعلنة عملا دول المنطقة العربية بكاملها فدخلت في حروب أهلية غير شرعية وغير ضرورية وباتت خرائط تشرذمها جاهزة للظهور متى شاء الفاعلون المتآمرون ذلك، وغاب نهائيا حلم الوحدة التي رافقت الأسلاف جيلا بعد جيل … ومست المجتمعات العربية فأصبحت عداواتها المحلية المؤسسة على العرق والطائفة والمذهب والجهة والقبيلة هي الثوابت المؤطرة لتتابع الليل والنهار … ومست هياكل الحكم فأصبحت هياكل بدون روح تحت أوامر مستبد خلَف مستبدا وسيخلفه مستبد … ومست المؤسسات المسيرة للحياة الاجتماعية في مختلف قطاعاتها فتحولت إلى مؤسسات مسيرة للفساد ولا شيء غير الفساد … ومست الأفراد هنا وهناك فانقسموا بين مجرم وانتهازي وشاذّ وعاهر ومزوّر وخامل وعانس ومخدَّر ويائس يكرّر الانتحار بعد الانتحار حتى ينتهي أمره، ولم ينجُ من مصائب ومصاعب هذه الحالة الخطيرة إلا قليل… ولولا نعمة البترول التي تحولت إلى نقمة، بالإضافة إلى بعض الخامات والسياحة الجنسية وتجارة الخردوات والمخدرات لمات أكثر العرب جوعا ومرضا قبل أن يصل المخطط الاستعماري البغيض إلى نهايته.
وفي الختام؛ لا أقترح شيئا ما لأن لا أحد يأخذه بعين الاعتبار في هذا الظرف العصيب الذي نمر به، وإنما أقول فقط : نحن العربَ على أبواب الخروج من مسرح التاريخ إن لم نفعل شيئا ما، فيه إنقاذنا ممّا نحن فيه.