تأملات في مِفْصَل عامين …

134914315 3806210029442045 7996711973991165571 n

بقلم : أ / د / بومدين جلالي

يا للْهَوْل كم مضى من الشهور والدهور !!

ذهب العمر ولم يبق منه إلا ما شاء الله أن يبقى منه !!ذهبت الطفولة والشباب والكهولة وحتى الشيخوخة لم يبق منها شيء كثير !!سُنّة الحياة هكذا هي … بل هي أقصر … بل هي أسرع … بل هي مجرد حلم أحيانا …

نأتي إلى هذه الحياة، ولا نعلم ما هي الحياة ؟نأتي إليها ونتعلّم ونتعلّم ونتعلّم، ولمّا نشعر أننا بدأنا نتعلّم تبدأ في التبخّر والاندثار…

يتساءل الإنسان أحيانا : هل عشت الطفولة ؟؟؟ وبعد أن يقلِّب الصفحات وراء الصفحات لا يجد جملة تامة مفيدة إلا نادرا، وإذا ما وجدها فستكون حتما مبتورة مقهورة مجرورة مذعورة، خلف كل حرف منها ألف سؤال وسؤال وربما أضعاف ذلك من الأسئلة التي ستظل عالقة من دون إجابات بعيدة عن ملكوت الضباب والسراب …

ويتساءل أحيانا : هل عشت الشباب ؟؟؟ وبعد أن يلف حول نفسه حتى ينكسر بصره وسمعه ومجمل حواسه المادية وطاقاته الوجدانية وقدراته الإدراكية لا يجد إلا لفّاً متكرّرا وفراغات متكررة وغرابات متكررة وأشياء لا اسم لها متكررة …ويتساءل أحيانا : هل عشت الكهولة ؟؟؟ هل عشت الشيخوخة ؟؟؟ ويدخل في تركيبات عسيرة معقدة فيها الزوائد والنواقص والمضروبات والمقسومات ضمن تقاطعات الحسي باللّاحسي والواقعي باللاواقعي والعقلي باللاعقلي والأصلي باللاأصلي والممكن باللاممكن حتى يذوب مجددا في تزاوج الأسئلة العالقة الضبابية السرابية بلف الفراغات والغرابات والمبهمات المتكررة … يا للْهَوْل كيف تولد الحياة من الموت ويولد الموت من الحياة والأفراد يأتون ثم يذهبون والمجتمعات تأتي ثم تذهب والأمم تأتي ثم تذهب والحضارات تأتي ثم تذهب، ونحن لا نعي ماذا يحدث ولا نتغلغل في خفايا ماذا يحدث ولا نتعظ بماذا يحدث …

أول فعل فعله الإنسان هو العصيان … وثاني فعل فعله هو الجريمة … وتوالى بالتعاقب حينا والتوازي حينا والتمازج حينا والتقاطع حينا العصيانُ والجريمة منطلقين من محدودية في المكان والزمان ثم اتسعا وتعمقا متحركين بشراسة حتى غطّيا الأزمنة والأمكنة وما فيهما من مخلوقات دونما أن ينسيا شبرا واحدا ولا لحظة واحدة ولا شخصا واحدا ولا كائنا واحدا من مختلف الكائنات التي كانت هي الحياة ومنها الحياة ولم يبق منها إلا بقايا تصرخ منذرة من السير بعجل نحو نهاية مأساوية لا ينجو منها ناجٍ …يا للْهَوْل كيف مارس الإنسان العصيان والجريمة على مَن أرِيد لهم أو أرادوا وفق ما لديهم من قدرة وطموح مِن بني جلدته السعْيَ إلى تأسيس شيء منير في عالم مظلم ومظلم جدا…

كان الاستثمار في العصيان على الأنبياء والمرسلين وارتكاب الجريمة على عدد معتبر منهم … وتكررت الظاهرتان على العلماء والمفكرين وعلى الأدباء والمثقفين وعلى كل الذين لمع في أرواحهم وعقولهم وقلوبهم نورٌ من الأنوار المقاومة لهمجية الإنسان الذي تخلى عن جانب من جوانب إنسانيته نسيانا وغفلة أو قصْدا وتعمّدا وزجّ بنفسه وغيره في مصائب الدروب وصراعات الحروب وإنتاج الخطوب بعد الخطوب بتدميرية رهيبة أتتْ على كل تعمير عجيب …

وفي نهاية المطاف؛ ها نحن اليوم في عالم يكاد أن ينفجر انفجارا ختاميا بين ثانية وأخرى … الصراعات النفسية والاجتماعية والإقليمية والإثنية والثقافية والحضارية والمصلحية تجاوزت آخر الخطوط الحمراء … صراعات ثنائيات الخيروالشر / الحق والباطل / الجمال والقبح / الفضيلة والرذيلة / الأمن والرعب / الاعتدال والتطرف / الاستقامة والاعوجاج .. وصلت كلها إلى هيمنة العنصر الثاني الاستثنائي وسيطرته شبه الكلية وفق رؤى العصيان والجريمة …

أصبح الإنسان في أزمة خانقة قد تكون قاتلة إذا لم يفعل شيئا ما، عاجلا وليس آجلا …فهو في أزمة مع ذاته التي لم تبق في طبيعتها حيث كانت مجرد ذات ضمن بقية الذوات وإنما أصبحت تعتقد أنها هي الذات وغيرها لاشيء إلا بالخضوع لها…

وهو في أزمة مع محيطه المباشر ومحيطه الإقليمي ومحيطه العام نتيجة انتفاخ أناه انتفاخا تجاوز المعقول واللامعقول معاً فعصى شريعة السماء وتوجيهات الضمير إضافة إلى عصيانه للقانون الذي وضعه لنفسه وتعديه على القيم التي أنتجها محيطه من مسار وجوده، ومن هنا تحوّل إلى مجرم بامتياز في حق نفسه وحق غيره وحق الأرض التي يعيش عليها وتشاركه فيها بقية الكائنات التي عمل على إبادتها أو تحجيمها وفق رؤية مصلحية مريضة، أقل ما يقال عنها إنها لا مصلحة فيها…

ما هكذا الإنسان الذي جاء تتويجا لبقية المخلوقات بما فيه من جلال وخير، وقدرة على العطاء والتعمير، وروح سامية أتت من الغيب محمّلة بالتكريم …ما هكذا الإنسانية التي فكّر الإنسان ودبّر عبر أحقاب متتالية وأصقاع متعددة وأشكال مختلفة في تحقيقها على أحسن صورة ممكنة … مرة وفق هذه الديانة أو تلك، ومرة وفق هذه الفلسفة أو تلك، ومرة وفق هذا النظام أو ذاك، ومرة وفق هذه الأطروحات بعضها أو كلها، معتمدا على ما تتيحه اللغات من تواصل وما وفرته المعرفة والفن والخبرة من تجادل وتبادل …صناعة المصائب والمصاعب ليست هي الحل المؤدي إلى جوهر الإنسان وجمال الإنسانية…

إنتاج الكوارث والمآسي ليس هو سبيل بناء شعور الإنسان ولاشعوره الحاملين معاً لجلال الإنسانية وكمالها …العصيان العام والدائم لا يقدم حلولا صغيرة ولا كبيرة بل يوصد الأبواب التي كان فتحها ممكنا ، والجريمة تبقى جريمة وهي أسوأ ما فعله الإنسان ضد إنسانيته عبر تاريخه الطويل، فردية كانت أو جماعية، مادية كانت أو معنوية … وختاما لهذه الكلمة، ونحن في مفصل عامين لا يختلف عن غيره من المفاصل السابقة بين الأعوام الخوالي إلا باتساع امتدادات المأساة في كل الاتجاهات من جراء عصيان الإنسان لكل أمر أو نهي فيه معنى من معاني الإنسانية السليمة الشريفة المكرّمة ومقابلته بجرائم فاقت ما سبق التعرُّف عليه في تاريخ الجرائم البشرية بمختلف الصيغ المادية والمعنوية والمتأرجحة بينهما؛ أقول :لا ينبغي أن نتحايل على أنفسنا ونكذب عليها وعلى غيرها بالأماني الفاقدة لمعناها والإنسان يُقْتَل في كل مكان، ويُشَرَّد في كل مكان، ويُجَوَّع في كل مكان، ويُسْجَنُ في كل مكان، ويُقْهَر في كل مكان، ويُتَعَدَّى على كرامته في كل مكان، ويُجَرَّد من إنسانيته في كل مكان، لا لشيء إلا لأنه مختلف لونا أو عرقا أو دينا أو لسانا أو موطنا أو دخْلا ماديا أو مكانة اجتماعية أو رأيا فكريا في الحياة أو غير ذلك من تجليات الاختلافات المتجاوزة للعد والإحصاء…وما ينبغي علينا أجمعين هو أن نعمل – وفق الاستطاعة – على إنقاذ أنفسنا من مآسيها التي أنتجتها داءً فتّاكا بها وبغيرها وجعلتها دساتير ومشاريع وجود… هنالك فقط ستولد الأماني تلقائيا وتتحول الحياة إلى مسار طبيعي يعيش الإنسان فيه طفولته وشبابه وكهولته وشيخوخته بالحد الأدني المقبول والمعقول في تصورات الإنسان على وجه التعميم لا على وجه التخصيص.

بقلم : بومدين جلالي