توقف حركة التاريخ

93429944 1151510411862379 3529292292047241216 n

بقلم/عبدالله الغنام

ثمة ميزة بالتاريخ المصري أنه “تاريخ شديد النشاط في حركته”، حتى أن عصور بعض حكام مصر-قديمًا وحديثًا-قد يستغرق سرد ما فيها من وقائع هامة على مختلف المستويات مساحات تزيد على تلك التي تستغرقها فترات تاريخية كاملة لدول أخرى!
عدا فترة الاحتلال العثماني، فالقاريء المتمعن في التاريخ المصري يلاحظ في تلك الفترة بطئًا شديدًا للأحداث وحالة من الخمول في حركة التاريخ..
وإن كان عصر التبعية “الرسمية” من مصر للدولة العثمانية كولاية يبدأ في العام 1517م وينتهي في العام 1914م، إلا أن تلك التبعية تنتهي عمليًا في العام 1805م بتولي محمد علي باشا حكم مصر بإرادة المصريين رغمًا عن أنف إسطنبول وسلطانها المتعاظم وباشواتها المتخمين!
من 1517م إلى 1805م.. أي 288 سنة جثم فيها الغول العثماني على صدور المصريين كأسوأ وأحط حكم منذ عصر الاحتلال الروماني ثم البيزنطي.. عانى فيها المصريون الفقر والجهل والمرض والظلم والفساد والإذلال، ولكن أسوأ ما عانته مصر بشكل عام هي “توقف حركة التاريخ”
– حركة التاريخ المصرية قبل العثمانيين:
ما الذي نقرأه عن “نشاط حركة التاريخ المصرية” في تلك الفترة؟ لا شيء يذكَر.. مجرد تطبيق للمثل الشعبي المصري “ما نبيت عليه نصحو عليه”.. تحول خلالها المصري-على حد قول مثل شعبي آخر-إلى “ثور مربوط في ساقية” تدور لتصب في الخزائن العثمانية..
مصر كدولة وكمجتمع أصابها خمول تام، لا إضافة للعلم أو الحضارة، لا دور خارجي كسابق عهودها، لا قامات علمية يشير لها العالم ويقول “هذا قدمته لنا مصر”..
ربما لا يدرك البعض خطر هذا الوضع على مصر، دعوني إذن أوضح لكم..
مصر بطبيعتها من الدول التي يرتبط تقدمها وارتقائها بوجود تحدٍ ما، ودور ما في مواجهة هذا التحدي.. عبر عصورها المختلفة يوجد هذا التحدي، من تطويع للنيل وفرض للوحدة، ثم استكشاف للثروات في سيناء والصحراء الشرقية، وصد للمعتدين من الغرب وغزاة البحر من الشمال، ومقاومة لحكم الهكسوس ثم دخول في طور الإمبراطورية والتوسع وفرض السطوة الدولية، ثم قلق روحي وثورة دينية فعودة لاستعادة الدور الدولي.. فمرحلة مقاومة الاحتلال الفارسي الذي انتهى به عصر “المصريين القدماء”، ثم إسهام في الحضارة الهيللينستية التي كانت مزيجًا من ثقافة الإغريق وثقافات الشرق، فضلًا عن ثورات ضد الأجيال الفاسدة من خلفاء البطالمة الأوائل، ثم مقاومة للاحتلال الروماني وعصور استشهاد دفاعًا عن العقيدة امتدت إلى العصر البيزنطي وانتهت بفتح العرب لمصر…
وفي ظل حكم المسلمين وامتزاج العنصرين العربي والقبطي كان لمصر دور تاريخي ينتظرها منذ انضمامها لساحات الاقتتال والتصارع منذ بداية ما يوصف ب”الفتنة الكبرى” وحتى استقرار الحكم للأمويين، ثم الانضواء تحت الحكم العباسي والثورات ضد الظلمة من الولاة، ثم مرحلة الدول المستقلة الطولونية ثم الأخشيدية ثم قيام دولة الفاطميين وما صاحبها من صراعات سياسية ومذهبية، ثم بزوغ النجم الأيوبي وتحول القاهرة إلى عاصمة لإمبراطورية أيوبية ممتدة عبر الشام وجزيرة العرب وقيام مصر بدورها في النضال ضد المحتلين الفرنجي (الصليبيين)، تلك الإمبراطورية التي ورثها المماليك وتولوا صد المغول وتطهير بلاد العرب من الفرنجة وإقامة حضارة عمرانية وثقافية وعلمية تعد هي الشروق الأخير لحضارة العرب والمسلمين..
تاريخ حافل بالحركة.. قدمت مصر خلاله للعالم محتويات حضارية من علوم وفنون ومذاهب دينية مسيحية وإسلامية وحركات رهبنة مسيحية وتصوف إسلامية ونماذج عمرانية فذة ونظم للري والزراعة وأساليب فنية وفنون في الكتابة وأعداد كبيرة من العلماء والمفكرين والمثقفين عبر التاريخ تبدأ بالحكيم بتاح حتب وتنتهي بالمؤرخ ابن إياس، وعواصم كانت قبلة العالم والحضارة من منف مرورًا بطيبة والإسكندرية وحتى القاهرة..
تولى خلالها المصريون حماية الشرق من الهكسوس والحيثيين والأشوريين، وقادوا الثورة على الفُرس والرومان والبيزنطيين، وأصبحوا قاعدة للمسلمين ثم ساهموا في طرد وردع الفرنجة والمغول وقراصنة البحر.
خمول حركة التاريخ:
تخيل أقدم دولة موحدة في التاريخ، وأقدم نموذج حضاري مستقر على نفس الموقع والمساحة، عندما يتحول بعد كل تلك الحياة الحافلة إلى مجرد ولاية يحكمها أجانب متعجرفون متعالون على “الفلاح” المصري ويصبح كل دوره في الحياة أن يشقى ويكد ليوفر فتاتًا يستولي على أكثره سلسال من لصوص الأوطان من ملتزم الناحية إلى الوالي مرورًا بالجند ووصولًا للسلطان!
ثمة رواية من روايات الخيال العلمي للدكتور نبيل فاروق كانت تروي قصة غزاة فضائيين احتلوا كوكب الأرض فكان أول ما قاموا به تدمير كل صور الحضارة لإدراكهم أن حكم شعب جاهل مغيّب مقهور أسهل من حكم شعب لديه أدوات بناء حضارة محترمة.. يحضرني هذا النموذج عند ذكر فترة الاحتلال العثماني لمصر..
منذ دخول سليم الأول القاهرة بدت سياسة العثمانيين واضحة: تدميرًا منهجيًا للحضارة المصرية ولطموح الشخصية المصرية، قمع للمصري وحشوًا لرأسه بالخرافات والخزعبلات والأفكار القاتلة للتطلع لما هو أفضل أو حتى للإيمان بإمكانية تحقيقه..
لا اهتمام بالتعليم، ولا الصحة… لا فرصة للترقي والمشاركة في حكم البلاد كما كان الحال سابقًا، لا دور دولي ولا حرية في المشاركة في صنع القوانين التي تتنزل وحيًا مقدسًا من إسطنبول..
هكذا تم سحق نشاط الشخصية المصرية.. تحول “عوام الناس” إلى أشخاص يحيون يومًا فيومًا دونما هدف أو طموح.. وتحول من يمكن وصفهم على استحياء ب”العلماء” إلى مقلدين لا مبدعين.. يعكفون على شرح الشروح… ثم كتابة حشايا للحشايا الملحقة بالشرح المكتوب للشرح.. والاعيان لا هم لهم سوى التقرب من سادة البلد سواء كانوا الولاة أو أمراء المماليك لنيل الحماية والحظوة والفرص..

فر البعض للحشيش والمسكرات وحياة العربدة.. وغيرهم وجدوا ضالتهم في تدين زائف مشوش مزدحم بخرافات ما أنزل الله بها على المؤمنين من سلطان.. آخرين أحبوا حياة “الدروشة” واعتنقوا فلسفة حياة أشبه ب”العدمية” فلم عد يهمهم مصيرهم باعتبار أنهم في كل الأحوال بؤساء ضائعون فراحوا يعالجون مشاكلهم بالغيبوبة من سُكر بفعل شراب أو دخان أو سُكر بالتطويح والانجذاب في الحضرات والموالد
وبطبيعة الحال اختلت معايير المجتمع التي تتحدد على أساسها اتجاهات بوصلته الأخلاقية.. فتسللت “مفاسد الأخلاق” إلى نفوس الناس.. ولا أجدني مبالغًا إن قلتُ أن كثيرًا من المساويء الأخلاقية التي تطل برأسها من حين لآخر في المجتمع المصري إنما هي من تبعات تلك الفترة المظلمة من تاريخ مصر وما جرى فيها من تشويه لشخصية المصري!
والواقع أن ذلك كان من أسلحة المحتل العثماني ضد الشعوب الخاضعة له، خاصة الشعب المصري، فهو-العثماني-يدرك أنه لو سمح للمصريين بمساحة للطموح أن يعودوا كما كانوا لأزالوه عن أرضهم ولو بعد حين.. أو لجعلوا إقامته فيها جحيمًا…
لهذا بينما في رقم مثل 288 سنة كانت مصر تشهد-في أي من عصورها السابقة-أحداثًا جسيمة، مثل الرقم في عصر الاحتلال العثماني “منطقة فراغ” أو “خواء” في تاريخ المصريين..
ختامًا:
ولكن القدر كان يخبيء للمصريين “هزّات” لإيقاظ النائم.. كان الغزو السريع للحملة الفرنسية هو الهزة الأولى.. وثورة المصريين ضد المحتل الفرنسي وتفاجوء المصريون أنفسهم بما يمكنهم تحقيقه من صداع ورعب للمحتل هو الهزة الثانية…
أما الهزة الثالثة فكانت تمكن المصريون من فرض محمد علي باشا على العثمانيين…
ومن هنا بدأت حركة التاريخ المصري تستعيد حيويتها التي حسب العثمانيون-والمصريون كذلك-أنها قد ماتت وشبعت موتًا!
كالعادة أتوقع أن يشبعنا العثمانيون الجدد وأتباعهم اتهامات بتزوير التاريخ.. حسنًا .. ثمة وسيلة بسيطة للتأكد من صحة كلامي أو خطأه:
هاتوا لي في الفترة من 1517م إلى 1805م عشرة أسماء لعلماء أو مفكرين أو مبدعين مصريين أضافوا للثقافة والحضارة الإسلامية بشكل يُعتَد به وقدموًا إبداعًا ذو قيمة.. وسآتيكم بضعفهم في العصر المملوكي السابق لعصر الاحتلال العثماني…
مجرد المحاولة الجادة للبحث عن الأسماء العشرة المطلوبة، ستجعلك عزيزي القاريء تفهم ما أعنيه بتوقف حركة التاريخ!