شتائياتٌ قاسية جدّاً ………. ( من خواطري القديمة ) :

132015882 3779166588813056 6056969940388036888 n

الجزائر بقلم : أ / د / بومدين جلالي

عندما يأتي الشتاء وينطلق موسمُ البرودةِ التي تصل إلى العظام مع صفيرِ الرياح القادمة من أرض الصقيع والتداولِ بين ثلجيات الليالي ومطرياتها المثيرة لغابر الذكريات وعجيب التأملات؛ ينتابني وجعٌ ليس كالوجع العادي وألمٌ ليس كالألم العادي وقلقٌ ليس كالقلق العادي وأشياءٌ أخرى فيها ما فيها من الإحراج والإزعاج وسقوط الأبراج وصعود الأمواج وتصادمات الأفواج بالأفواج داخل ما في الأصقاع من امتدادات وفجاج … أرى – وأنا أنثني في ذاتي على ذاتي فرارا من مبهمات ذاتي – في ما يرى المتأمل أناساً هنا وهناك وهنالك تلتهمهم أدواتُ الحرب، بأمرٍ من صُنّاع الحرب، وتدبيرٍ من سماسرة الحرب، وتنفيذٍ من مرتزقة الحرب الذين هبّوا من كل حدْب وصوب من أجل زرْع الموت وغرسه في مجتمعات وتجمعات كانت آهلةً بزرْع الحياة وغرسها عبر أزمان وأزمان ثم صارت مجرد مقابر دُفِنَ فيها القتيل فوق القتيل ألف مرة ومرة في القبر الواحد وظل أضعافهم دون دفن في متناول الحشرات وذوات الظفر وذوات الناب وغيرها من اللاحمات المرئيات واللامرئيات … كما أرى في ما يرى المتأمل اليتامى والأرامل والثكالى والدنيا حولهم من دون شمس ولا قمر ولا حتى بقايا نجم واحد في طريقه إلى الانطفاء وآثارُ الذين رحلوا بتهور متهور غير مسؤول أو فعل فاعل غير بريء أو تقصير مقصر حوّل جادة الوجود إلى لهو وعبث أو معتوه يتلذذ بإراقة الدماء تتمسْرحُ في مخْيالاتهم كأنها أمامهم لكنها ليست أمامهم ولا يمكنها أن تعود وتصبح أمامهم لتظهر الشمس والقمر والنجوم من جديد في حياتهم … كما أرى في ما يرى المتأمل أقواما وأقواما يرتجفون بردا ويتضورون جوعا والمارة حولهم في ذهاب وإياب وصعود ونزول ودوران مستمر من غير ان يتوقف أو يلتفت أحدٌ منهم إلى مرتجف أو متضور مع أنه يصرف على كلبه المدلل ما بإمكانه أن يُطعِم ويكسو فيْلقا من هؤلاء الذين افتقروا بسبب جبروته وجبروت أمثاله الذين لم يحتفظوا من إنسانيتهم بشيء ما عدا شكلها … كما أرى في ما يرى المتأمل الغرباءَ الحيارى وهم تائهون في غربتهم الحائرة بين أحجار ليست كأحجارهم وأشجار ليست كأشجارهم وطرقات ليست كطرقاتهم ضمن مجتمعات ليست كمجتمعاتهم وثقافات وعادات وسلوكات لا يربطهم بها رابط، يخرجون صباحا فلا من ينظر إليهم بعين دافئة عارفة ويعودون مساء فلا من يحس بهم بقلب عطوف رؤوف، الناس في سعة من أمرهم والكون حولهم ضيق لا يتجاوز مساحة ملابسهم وموقع خطاهم على أرض لا تعرفهم ولا يعرفونها ولا تتبادل معهم ولو إشارة او رائحة أو لمسة من إشارات وروائح ولمسات الخصوصية والانتماء، كل شيء في دنياهم آلي ميكانيكي لا ذوق فيه ولا طعم ولا مقدار ذرة من السعادة … كما أرى في يرى المتأمل صفوف المرضى والمصابين بأثر الحوادث المختلفة وهم يتنقلون بين داء ودواء مثلما يتنقلون بين يأس متشائم وأمل متفائل وحركة الحياة تضغط وتضغط وتضغط بدرجات تتنقل بين المطاق العادي واللامطاق غير العادي … كما أرى … كما أرى … كما أرى …

ألم الحياة في عصرنا المتألم فاق الألم كله وأصبح مأساة وجودية متواصلة يراها المتأمل وغير المتأمل وتشارك فيها الإنسانية بمختلف أطيافها : بعضها فاعل يصنع الألم بقوّته وطغيانه، وبعضها مفعول يقع عليه الألم بضعفه وهوانه، وبعضها متفرج تائه في تيهه أو تيهانه، وبعضها متأمل يدرك بعض حقائق الألم الآكل للإنسان أكْلا خارجيا وداخليا لكنه لا يستطيع أن يفعل فعلا له أهمية ما غالبا وإذا ما استطاع أن يفعل – وهو نادر – ففعله لا ينطلق حتى يجابه ألف حاجز وأكثر وغالبا ما يسيء من حيث أراد الإحسان نتيجة عوامل لم يتمكن الفكر البشري من التغلغل إلى رحمها وتفكيك جميع إحالاتها برغم تاريخه الطويل الطويل ومقارباته التي تجاوزت كل تعداد، وهنا تكمن قمة المأساة وتكتمل عناصرها المادية والمعنوية … الإنسان يتألم الألم كله … وألمه هو مَنْ أنتجه وهو من يستهلكه … ولم يبق من الحلول إلا حل نهائي واحد تعرفه خاصةُ خاصةِ المؤمنين والمؤمنات الذين ربطوا وجودهم بالله تبارك وتعالى وعاشوا في مدِّ يد الحب والخير والسلم لغيرهم ضمن التعايش والتعاون والتكافل معهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ