شجرة الجميز العتيقة والناي الحزين

FB IMG 1599077551107

قصة قصيرة ….

 

                                                بقلم / على حزين 

سبعة أعوامٍ مضت .. وأخباره منقطعة عن القرية .. أُشيع بأنه قُتل .. بعض أقاربه لم يؤمن بموته .. والبعض الأخر قالوا بأنه فُقد مع من فُقد ……

لكنه اليوم عاد , وبالكاد يتذكر بعض أهله , وبعض أصدقائه القدامى , والنذر القليل من الأحداث التي مرت به ……. عاد وهو شبه فاقد للذاكرة …..

وكأن عقله حدث فيه خلل ما .. جعله لا يستطيع أن يتذكر أي شيء , عن حياته الماضية , اللهم إلا إذا ذكره من حوله , وعصف بذاكرته , وهز ذهنه , فيتذكر … …….

سبعة أعوامٍ مضت , والناس في القرية ليس لهم حديث إلا عنه , ولا سيرة إلا سيرته .. وكيف كان الجميع يحبه , لحسن خلقه , وأدبه الجم , مع ابتسامته الجميلة التي لم تفارق محياه , على الدوام , وجهه البشوش , وطلعته البهيَّة .. وكيف كان لا يردُّ أحداً قصده .. ولم يتأخر مع أحدٍ في أي أمر يطلبه منه .. يرحم الصغير , ويوقّر الكبير , فهو راجل شهم , صاحب واجب , وصاحب صاحبه , وبرغم قلة ذات اليد إلا أنه لم يسأل الناس إلحافاً , ولا يرد سائلاً سأله مسألة .. أو قصده في أمر ما.. تراه في الأفراح,والأتراح , كأنه صاحب الفرح , والواجب , وتجده كتفاً في كتفٍ مع صاحب المصيبة , وفي الفرح فهو أهل فرح ……..

وكيف كان حبه لـ ” مريم ” تلك الفتاة البيضاء اليافعة , ذات الثامنة عشر ربيعاً والتي ليس لها مثيل في القرية , في جمالها , وفي أدبها , وكيف رفض أهلها تزويجها له لأنه فقير , ولا يملك من حطام الدنيا شيء ,إلا بيت بناه بالطوب اللبن من طابق واحد صغير يشبه الكوخ , قاطن على مشارف القرية ……..

وكيف كان يرفض أن يترك القرية , ويهاجر مع من هاجر إلى تلك البلاد البعيدة , برغم أنهم حاولوا إغرائه أكثر من مرة , وحاولوا أن يقنعوه أصدقائه , بالرحيل معهم , حيث المال هناك , والعمل الوفير في تلك البلاد , إلا انه كان يرفض رفضاً باتاً , وفضل أن يبقى في بيته , وبجوار حبيبته ” مريم ” التي أحبها من كل قلبه

كنت أراه كل يوم يجلس تحت الشجرة العتيقة, شجرة الجميزة العجوز التي تعسكر أمام داره , وبيده الناي الذي لا يفارقه , وتكعيبة العنب التي زرعها بيده , بجوار الدار , والتي كبرت ورعرعت , وتدلَّت أغصانها المثمرة على الطريق .. حتى صارت استراحة جميلة , لكل سائر على الطريق ……….

يجلس يعزف علي الناي الحزين , أعذب الألحان لحبيبة قلبه ” مريم ” برغم أنها تزوجت بغيره , إلا أنه ظل يحبها , ورفض أن يتزوج غيرها ………..

ينتظرها كل يوم عند الأصيل , وهي عائدة من الحقل , مع مواشيها , وبيدها العصا تهش بها على الماشية , …….

عاد بعد انقطاع أخباره .. وقد تغيرت ملامح وجهه الأسمر, وتغيرت هيئته تماماً , وتغيرت حالته , لحيته طالت , وشاربه تدلَّى لأسفل , شعره غزاه الشيب , وأخذت الحُفر الصغيرة , والتجاعيد تغزو وجهه , بسمته ذهبت , واختفت نضارة وجهه , وحل محلها تكشيرة عريضة , وعيناه التي كانت يشع منها البريق أنطفأ البريق , وصارت نظراته تملأها البلادة , والحيرة , وربما الخوف من شيءٍ ما ………

طرأت على تصرفاته أحوال غريبة , وعجيبة في نفس الوقت .. فمثلاً , يكون جالس في أمان الله , وفجأة , يصرخ , ويسد أذنيه , ويغلق عينيه , ويضع يديه فوق رأسه , أو حول رقبته , وهو يتفصد عرقاً , ويصرخ في فزعٍ شديد , وهو يصم أذنيه , وقد جلس القرفصاء , وربما قام فزعاً , وأسرع ليختبئ تحت السرير أو في ركن ما في الغرفة , وقد أطفأ الأنوار جميعها , وقد انتابته حالة هستيرية , مع الفزع الشديد , ورعب من شيءٍ ما , لا يراه إلا هو ………

مازلت أذكر تفاصيل ذلك اليوم البعيد , الذي كنا فيه صغاراً .. نلهو , ونلعب , ونستحم في الترعة التي تطل من بعيد على منازلنا الريفية الصغيرة , والتي تمر بجوار شجرة الجميز العجوز أمام دار ” عويس ” ……….

ما زلت أذكره , وهو جالس تحت الشجرة , وبيده الناي الحزين , قُبيل الغروب , حينها سمعنا أزيز الطيران , يمُر من فوق رؤوسنا الصغيرة , وصوت صفاراتِ الإنذار تدوي من أعلى “وآبور” النور القديم , لنختبئ في بيوتنا , وكان الناس في حالة فزع , وهلع , وهرج , ومرج , وخوفٍ شديد .. يومها رأيته وهو واقف ثابت مكانه كالجبل , لم يفزع , ولم يتزعزع , ثابت على الأرض في تحدي , وإصرار , يصرخ في الناس , بأن لا يخافوا , ولا يراعوا … وأنا واقف بجواره , أقلده , وأستمد صلابتي منه , وهو يقول للناس : ..

ــ لا تخافوا .. لا تخافوا .. ُدوْل كلاب , جبناء …

وما زلت أذكر أيضاً , يوم وقعت جاموسة حبيبته ” مريم ” وصراخها على من بنجدها , ويخرج لها جاموستها من البطَّال , تلك الجاموسة التي أحضرها لها أهل الخير , ضمن مشروع ” اكفل أرملة , أو يتيم ” فقد تدهور بها الحال , بعد موت زوجها , ورفضوا إخوتها أن يعطوها ميراثها من أبيها , ونصحها أهل الرأي بأن ترفع دعوة عليهم في المحكمة , لترد حقها بالقانون , وتأخذ ورثها من الأرض , التي تركها لهم أبيها , لكنها رفضت أن تخسر إخوتها من أجل حفنة تراب على حد زعمها , كما كانت تقول دائماً :

ــ فوَّضت ليك الأمر يا صاحب الأمر …

وجلست في بيت زوجها الذي رحل عنها , لتربي أولادها الصغار اليتامى , ورفضت أن تتزوج من بعده , ودفنت حبها القديم في صدرها , برغم جمالها , وبرغم أن تقدم لها ” عويس ” حبيبها مرة أخرى بعد موت زوجها , فرفضت أن تبدّي نفسها على أولادها , برغم أنها تمتلك من الجمال والأنوثة الطاغية , ما لم تمتلكه كثيرات من نساء القرية , حتى أن أغلب شباب القرية كان يتمناها لنفسه , حتى العمدة نفسه عرض عليها الزواج أكثر من مرة ليضمها إلى طابور نساءه , فكثيراً ما حاول معها , مرة بالترغيب , ومرة باستخدام نفوذه , وسلطته , لكنه فشل معها , وكانت ترفض طلبهم , بكياسة , وأدب , معللة ذلك بأن معها يتامى وتريد أن تربيهم :

ــ أنا هــ مكث على الأيتام دول عشان أربيهم , وأعلمهم أحسن علام , وأنا لا بفكر , ولا أنفع للزواج تاني نهائي ..

لا أدري لماذا تحضرني , وبقوة كل تلك التفاصيل البعيدة , وينبعث من جديد في رأسي الآن, ذلك الماضي الجميل , ولا أدري لماذا يحضر جارنا العزيز الآن في ذهني بوضوح , ذلك الرجل الطيب , الشهم .. ربما لأنه عاد , فعادت معه الذكريات .. أو ربما لأنني بطبعي أحب أن أرجع إلى الماضي بذاكرتي , وأعيش دائما مع ذكرياتي .. لا أدري ……..

صورته أمام عيني الآن .. هاهو يجري على الطريق الزراعي .. وكان الوقت ظهيرة , لنجدة حبيبته ” مريم ” التي وقعت جاموستها في البطَّال , وهي تصرخ وتطلب من ينجدها , وبالصدفة المحضة كان يمشي ” عويس ” على الطريق الزراعي .. ولما سمع صراخ حبيبته ” مريم ” جري ناحية الصوت , وبعض نفرٍ من أهل القرية معه , ونزل بهدمته البطال , أمسك بالحبل , وأعطاه للواقفين على اليابسة , ليشدوها معاً , وهو يرفعها لهم بين يديه , وأنا كنت مع من يشد الحبل

وبعدها بأيام قلائل , بدأت الحرب مع العدو , وذهب مع شباب القرية للتجنيد .. وانتهت الحرب , وألقت بأوزارها الثقيلة , وانتظر أقاربه عودته.. وكذلك حبيبته ” مريم ” .. وأهل القرية عاد أغلب من ذهب منهم معه , وظل أهل القرية في انتظار دائم , وطال الانتظار , ولم يعد جارنا العزيز , وانقطعت أخباره من حينها أقاربه سألوا عنه رفاقه , ومن كانوا ذهبوا معه للحرب وعادوا .. وسألوا عنه في كل مكان , حتى فقدوا الأمل في رجوعه ….

” قالوا بأنه استشهد في المعركة.. مثل كثيرٍ من أقرانه .. واعتبروه شهيد الواجب والوطن .. وأطلقوا عليه أسم البطل الشهيد .. ومنهم من قال : “بل وقع في الأسر وسيعود .. ومنهم من قال : بأنه لم يمت أصلاً … وقالوا … وقالوا …. ” .. وصُنع منه أسطورة .. ونسجت حوله الأساطير ..

لكن اليوم عاد , وحدثت المعجزة .. وفرحت ” مريم ” لعودته .. وقلعت السواد الذي كانت ترتديه , ولأول مرة منذ توفى زوجها تلبس الملون , وأهله صنعوا له ليلة لله ” فرح ” ودُعي أهل القرية جميعاً .. وأجلسوه كما العريس وسطهم .. وراح أهل القرية كلهم يهنئونه على العودة بالسلامة …….

وأخذ يحكي لأقاربه .. ولكل من جاء يسأل عنه , ويزوره .. ويحدثهم عن كل ما رآه .. وما حدث معه .. وكيف أصيب في المعركة .. وبترت ساقه بشظية من صاروخ وقع بالقرب من تجمعهم .. وهو بين الفينة والفينة , يحمد الله على والنجاة .. وهو يقول لهم : كيف نجى من الموت المحقق بأعجوبة , بل بمعجزة إلاهية .. وكيف تصدت قواتنا المسلحة للعدو .. وكيف كان طيران العدو يقذف بحمم النار , على أي شيء متحرك أمامه , وكانت أصوات النيران , والمدافع , والقنابل , والإنفجارات تدوي في كل مكان .. وهو يردد دائماً , بافتخار …

ــ حاربتهم لآخر طلقة في البندقية , حتى نفذت مني الذخيرة , والماء , والطعام الذي معنا , بعض الجنود من شدة القذف , تاهوا في الصحراء .. وكيف كان العدو يبحث عنهم كالمجنون بالطيارات .. وظلْتُ أنا وبعض الجنود متمترسين في أماكننا واستطعت أنا ومن معي من الجنود , تدمير رتل من دبابات العدو الغاشم , وحولناها إلى كومة من الفحم , والصفيح المحترق , وقطعنا إمدادات العدو , وفرحنا , وكبرنا , وفجأة , طيران العدو دكّ الموقع على من فيه .. ونحن نقاومهم بكل قوة , حاولنا الاتصال بمركز القيادة , لكن الإشارة كانت ضعيفة جداً , ومنقطعة

وهنا يتوقف عن الكلام .. ويدخل في شرود طويل .. وقد أخذته غصّة في حلقه .. ودموعه هملت غزيرة تنزل على وجنتيه …………

اقتربت منه , سلمت عليه .. ذكّرتهُ بنفسي .. عصف ذهنه .. وعصر ذاكرته , فتذكرني أخيراً .. ربّتُ على كتفه .. جلست بجواره .. تحت شجرة الجميز العتيقة هش وبش في وجهي .. تجاذبنا أطراف الحديث .. وفي خضم الكلام معي , لم ينسى حديثه عن الحرب .. وراح يقص لي بعض ما حدث معه ….

سألته : عن سر تغيبه ..؟!.. وانقطاع أخباره عن القرية , كل هذه السنين ..؟!.. وأين كان ..؟!.. ولما لم يعد مع من عادوا ..؟!.. فاعتدل في جلسته .. وقد وضع الناي في حجره .. وأخذ نفساً عميقاً .. وراح يحكي لي ما كان .. وما حدث معه .. وكيف كانوا يضطرون بأن يناموا وسط جثث الجنود الذين قتلوا في المعركة .. عندما كان جنود العدو يبحثون بين الجثث على من نجا , ليُصَفُّوه , وفجأة , صمت .. وأخذ نفساً أخر أعمق من الأول , ونظر إلى الأرض , وراح ينكت بعود كان في يده , برهة , وكأنه يتذكر شيءً ما قد نساهُ .. ثم واصل حديثه قائلا : ..

ــ اقتحم العدو المعسكر الذي كنا مرابطين فيه .. واضطررنا لترك مواقعنا .. وظللنا نسير في الصحراء على غير هدى .. أياماً وليالي , بلا ماء , ولا طعام , حتى أخذنا نتساقط , واحداً تلو الآخر , من شدة الجوع , والعطش , والإعياء , ولم أدرِ إلا وأنا في إحدى الخيام , وسط مجموعة من بدو الصحراء ,وقد ألبسوني ثيابهم .. فلما أفقت , واسترددت بعضاً من صحتي .. سألت :

ــ أين أنا ..؟! .. وأين أصدقائي من العساكر ..؟!….

فأخبروني بما كان .. وكيف عثروا علي .. وأنا فاقد الوعي , وفي الرمق الأخير .. فانتزعوني من براثن الموت , والهلاك الذي كاد أن يفتك بي , كما فعل بأصدقائي وكيف أخذوني , وأخفوني عن أعين العدو .. وظلت عندهم , كواحدٍ منهم , حتى برئت , وشفيت تماماً .. وحتى تمكنوا من إيصالي إلي أقرب نقطة عسكرية .. وتم تسليمي لهم … و …….

وظل يحكي لي .. وهو يرسل بصره تارةً إلي السماء , وتارةً أخرى , نحو الطريق الزراعي , بمحاذاة الترعة ….

وكأنه يتذكر أمراً ما .. أو ينتظر أمراً ما .. وربما كان يتطلع إلى مقدم حبيبته .. “مريم” حين تكون في طريقها إلى المربط الذي تربط فيه جاموستها …..

وظل يحكي لي حيناً .. ويسكت أخرى .. وظلت أستمع إليه باهتمام .. وترقب .. وأنا أنظر لساقه المبتورة .. والتي عوضوه بها ساقاً صناعية .. أسندها إلي ساق شجرة الجميز العتيقة .. بجوار الناي المصنوع من الغاب ……

وصوت المذياع ينبعث من داخل كوخه الصغير … يعلن عن غارة جوية جديدة … وتصدي قواتنا المسلحة , الباسلة لها .. وتكبد العدو الغاشم … خسائر فادحة في الأرواح والمعدات …………..