إمضاء : الأستاذ الدكتور بومدين جلالي…
الصورة المعروضة هي إشهار إعلامي لسردية فنية رائعة تركتْ أثرها الوجداني في ذاكرتي الثقافية … كنت طفلا في العاشرة والنصف من عمري بمسقط رأسي مدينة البيّض في السهوب الغربية والجزائر تعيش سنتها الأولى لاسترجاع
سيادتها الوطنية بعد ليل استعماريّ طويل جدا ومرير جدا، وأنا عصرئذٍ تلميذٌ في مدرسة ابن باديس الابتدائية قبل تحويلها إلى متوسطة … كانت مدرستي مزودةً بقاعةِ سينما يُعرَضُ فيها فيلمٌ باللغة الفرنسية مع نهاية كل أسبوع،
قد استمْتعْتُ فيها بمشاهدة مجموعة من الأفلام الأوروبية والأمريكية، منها واحد ظل راسخا في تلافيف أعماقي بحَدَثِه الحزين الذي يحْكي قصة طفل لا أسرةَ له في عالَمٍ مليء بالمصائب والمصاعب وما يجعل الرعبَ واللاستقرار رفيقين دائمين لمَنْ هو في وضع الطفل بطل الفيلم، وفي الوقت ذاته يحكي تصويرياً نشوةَ لحظاتٍ مذهلةٍ تجْلبُ السعادة من قلب التعاسة بواسطة معزوفات موسيقية في حركات صبيانية تتسرب إلى خفايا الروح فتحوّل الدموع إلى بسمات والهموم إلى آمال، وظلت ثنائية الألم والفرح الناتجة عن المشاهدة تجد مكانها في مخيالي دون أن تَمَّحِيَ أو تختفيَ في خزائن النسيان …
ولمّا كبُرْتُ وتوسّعتْ مداركي عرفتُ أن سيناريو الفيلم المعني تأسس على آخر رواية رومنسية كبيرة كتبها في نهاية القرن 19 م الأديب الفرنسي Hector Malot هِكتور مالو في جزئين بعنوان “Sans famille / من دون عائلة” … وذات يوم وأنا شاب طالب في مدينة وهران بشمال البلاد، لقد وقعت عيناي على العنوان بالفرنسية عند شيخ يبيع الكتب القديمة على حافة آخر الشارع الرئيس بوسط المدينة، فأخذت الجزئين الباليين بثمن زهيد والتهمتهما التهاما في زمن قياسي ثم أعدت قراءتهما بأيام قلائل بعد ذلك … وخرجت من القراءة بأن ما تقدمه السينما بمؤثراتها التصويرية والموسيقية واللغوية له جماليته وإحالته، وما تقدمه الرواية بمؤثراتها السردية والبلاغية والتخييلية له جماليةٌ وإحالة أخْريان برغم واحدية الحدث والأبطال والمكان والزمان غالباً، أو بتعديلات طفيفة نادراً …
وهذا ما دفعني مع تطور مساري الثقافي إلى قراءة مجموعة من الأعمال الروائية التي اقتبستها السينما وانتقلت قصتُها من جمالية الكلمة الساردة إلى جمالية الصورة الحاكية مثل : مدام بوفاري للفرنسي غوستاف فلوبير Gustave Flaubert ، والأم للروسي مكسيم غوركي Maxime Gorki ، والعجوز والبحر للأمريكي أرنيست هيمنغواي Ernest Hemingway، واللص والكلاب للمصري نجيب محفوظ، وريح الجنوب للجزائري عبد الحميد بن هدوقة، وقطار الشرق للبريطانية أغاتا كريستي Agatha Christie ، والناب الأبيض للأمريكي جاك لندن Jack London ، وغيرها… ولعل تلك القراءات/المشاهدات هي التي كانت باعثا على اختياري البحثَ في المقارنة الأدبية حين توفرت فرصة التخصص الأكاديمي …
وبقدر ما ابتعدت عن التأثر الوجداني بثنائية الألم والفرح الرومنسيين في لقائي الثاني مع هذا العمل الأدبي الكبير بقدر ما اقتربت من شخصية الطفل “ريمي” واسترجعت وجودها الواقعي التاريخي في كثيرمن أبناء جيلي، أطفال نوفمبر الذين عاشوا خلال الثورة التحريرية – وأنا منهم ومعهم – آلاما فظيعة لم تسردْ ولو نسبة واحد منها في الألف بأمانة داخلية خارجية أيةُ رواية جعلت من ثورتنا حدثا لها، والملاحظة ذاتها تنطبق على السينما وغيرها من الفنون التي استثمرت تيمة الثورة الجزائرية، كما عاش أولئك الأطفال أيضا أفراحا عظيمة لم يتمكن أي فن من إبراز ولو نسبة ضئيلة من تجلياتها المعنوية غير المادية التي لا تضاهيها تجليات أخرى بما فيها من خصوصية للبهجة المطلقة اللامرْئية. وكان مصدر تلك الآلام القصوى هو الموت الذي كان يمشي فينا وأمامنا بزيِّه العسكري الاستعماري وهو يضع اليد على زناد النار لكي يأخذ منا كل شيء بما في ذلك آباءَنا وأمهاتِنا وجميعَ أحبتنا وحتى الأرض التي عليها نمشي ونلعب، كما كان مصدر تلك الأفراح القصوى أحياناً هو مجرد السماع بسقوط أحد الذين يشخصّون الموت والظلم وكل أشكال القهر على يد واحد ممن كانوا أملنا في الحياة ونجومنا في الأرض التي فاقت نجوم السماء بهاءً وضياءً، وأحيانا هو التفاف كوكبة أطفال في جوع شديد حول طبق طعام جاء من أحد البيوتات الطوبية المنهكة في لحظة غير منتظرة، وأحيانا هو إجراء مقابلة رياضية صبيانية بكرة قدم من أسمال بالية ممزقة مشدودة إلى بعضها بمجرد خيطٍ تتقاذفها أرجل حافية لا تعرف ما معنى حرارة الصيف ولا برودة الشتاء ولا أخطار زجاجة مكسّرة أو مسمار صدئ لا وقاية منهما في الزنقة الضيقة الجامعة لأطفال الفريقين المتنافسين …
وجاء اللقاء الثالث بالرائعة الفنية نفسها وأنا كهْل بين أسرتي الصغيرة في مدينة سعيدة أين وقع استقراري بعد إنهاء التدرّج الجامعي … في ذلك الوقت كانت القناة التليفزيونية الوطنية الوحيدة تعرض جميل الأعمال الراقية وفق توقيت مدروس بعناية مع المحافظة على الجو العائلي في خصوصيته الجزائرية القائمة على الحياء … ولم يكن اللقاء هذه المَرّة لا سينمائيا ولا روائيا وإنما كان بصورة أخرى جامعة بينهما ببساطة وجاذبية وجمال تمثّلتْ في مسلسلِ رسومٍ متحركة مترجم إلى اللغة العربية تعرضه الشاشة الصغيرة بين صلاتي العصر والمغرب وقت انتهاء الأشغال اليومية خارج البيت … فُرجةٌ أسرية ممتعة تتخللها بعض التأوّهات العابسة أو الباسمة انسجاما مع ما يمرّ به الطفل البطل من أحداث تتأرجح بين نقيضَي الحياة ثم يليها تعقيب سريع من بعض أفراد الأسرة وتُقْلب الصفحة نحو شيء آخر في انتظار الحلقة المقبلة … وشاع ذلك المسلسل الكرطوني بين الناس، ومن بين التعليقات الأسرية والمجتمعية التي كانت تصل إلى قلبي دون أن أشعر بمرورها بحاسة السمع عندي : ” ما أجمل ريمي وهو يعزف ” … ” الحياة يصنعها الضعفاء بمعاناة ويستفيد منها الأقوياء دون معاناة ” … ” علاقة مذهلة بين الطفل والكلب والقرد ” … وهكذا من التعليقات التي تقول بسرعة البرق خفايا شعورية ولاشعورية في آنٍ معاً، وكنت أجد فيها ما ترتاح له عواطفي بمنتهى الحرية ويتحفظ عليها كثيرا أو قليلا سلطانُ عقلي الملتزم بقضايا لا تهم القلب إلا نادرا … ومن بين ظواهر هذا المنحى المرغوب عاطفيا والمتحفظ عليه عقليا هو أني أحببت في حياتي حلقات المدّاح الشعبي كما أحببت وقفات الموسيقي الجوال من غير إحراجٍ نفسي يُذكر برغم موقف العقل الذي يرى أن مثل هذين التمظهرين البسيطين من الهامشيات التي لا أهمية لها في الصناعة الفعلية الحياة …وهذه بعض أخريات تذْكارياتي القريبة من حاضر الزمن مع المدّاح الشعبي والموسيقي الجوّال. بالنسبة للأول؛ قد كنت مدعوّاً في مناسبة اجتماعية داخل الجزائر، وأثناءها تحدّث قليلا شيخ طاعن في السن يظهر عليه العوَز من هندامه وتجاعيده فقال مقطعين قصيرين من المنظوم الشعبي ولم يلتفت إليه أحد فسكت، وفي آخر المناسبة عرضتُ عليه تخفيف الطريق إلى بيته فركب بجانبي ثم حاورته حتى انطلق لسانه فسمعت منه ما أدهشني من جميل الكلام الشعبي شعراً وأمثالاً وحكماً وتنكيتاً ولما وصل إلى بيته بعد حوالي ساعة أكرمته فعانقني بسرور واضح ودعا لي بالخير. وبالنسبة للثاني؛ كنت في سفر خارج الجزائر، وبالذات في مدينة إسطنبول التركية، وأنا أتجول مساءً – كما يحدث في كل سفرياتي – مررتُ ببطْءٍ رفقة زميلين مرافقين لي عبر قنطرة بوسفورية من الجهة الغربية الأوربية إلى الجهة الشرقية الأسيوية، والعوامات والزوارق في إقبال وإدبار، وصيّادو السمك مصطفون جنبا إلى جنب وعيونهم غارقة في المياه البحرية هنا وهناك، وحين الوصول كان الخروج عبر ممر واسع تحت القنطرة، وثمّة وصل إليَّ مشهدُ فتىً موسيقيٍّ جوّال وهو يعزف تحفة فنية أحسسْت أنها تلخص عجائب البوسفور خلال تاريخه الطويل وأمامه صحن فيه بعض القطع النقدية المعدنية القليلة … استأذنتُ المرافقين ووقفت لحظات أمام العازف من غير أن تتلاقى عيناه بعينيّ وأنا في دهْشةٍ أو نشوةٍ أو رعشةٍ، ولمّا خفّ ما بي وضعت ما في جيبي من قطع نقدية معدنية في صحنه فرفع باتجاهي عينيه بمسحة باسمة وواصل عزفه وواصلت طريقي مع الزميلين اللذين كانا في انتظاري …
وأتى لقائي الرابع والأخير مع هذا العمل الإبداعي المنماز وأنا شيخ في خريف العمر أقضي بعض وقتي مع حاسوبي لهذا الغرض أو ذاك … كنت أتصفح الأنترنيت فصادفتني الصورة موضوع الحديث فعاد بيَ الزمن إلى الوراء وأنا أنظر إليها بعين التداعي الذي يبعث الحياة في الماضي وهو رميم، فما كان إلا أنْ حمّلتُها وقلتُ سأكتب عنها نصّا لقرائي الذين يحبون أسلوبيتي الحاكية من ذاكرتي عن خاصة ذكرياتي، وها أنا قد فعلت ……….. مع أنيق تحياتي لكل قارئ وكل قارئة.