بقلم / علي حزين
القطار مزدحم , وأم الفتاة لم تفتأ تثرثر مع صديقي بصوت غير واضح .. أما الفتاة فكانت تنظر من النافذة الزجاجية , وفجأة بدأ عليها الشرود , وحالة من السرحان الشديد , فتمنيت للحظة لو أنها كانت تفكر فيّ .. أو تشاركني في التفكير .. لو أدخل رأسها ..؟.. لو أستطيع , لأعرف ما يدور في رأسها ..؟..
” من صغر سني وأنا نقطة ضعفي الوحيدة البحث عن الجمال في كل شيء وأنَّ وجد , في الطبيعة الخلابة , وفي الخضرة , والماء الجاري بين ضفتي النهر , وفي زرقة السماء , والكلمة الحلوة تأسرني , أحب الشعر , والروايات , والقصص العاطفية , وأحب الحرية , والانطلاق , والسفر , وصوت العصافير , وأغصان الشجر وارف الظلال والورد الضاحك في الصباح , وأحب الجمال في النساء خصوصاً إذا كانت امرأة جميلة , أعتقد أن هذا أحساس ليس مرضي بالطبع , لكن المرضي بالفعل هو أني رجل مريض بالخيال , وغير منظم في حياتي , بوهميي , فوضوي , لا أحب الروتين , ولا الرتابة , ولا الضجيج , أنا رجل غير نمطي , أو منطقي , موسوس جداً , وأجمع بين كل المتناقضات بداخلي .. وباختصار تقدر أن تقل عليّ بأني رجل غريب الأطوار .. لدرجة تثير الشفقة , وربما الاشمئزاز أيضاً , أنا أعترف بذلك , نعم أعترف , ولا اخجل , وأظن , بل أكاد أجزم بأن كل واحد منا عنده نقطة ضعف بالتأكيد إليه ينفذ الشيطان ويأتيه منها , فمن الناس نقطة ضعفه المال, ومن الناس من نقطة ضعفه المدح , والثناء .. الخ … فكلنا إنسان مخلوق طين وماء .؟!.. والإنسان ضعيف .. ” …….
القطار لا يزال ينساب فوق شريطه الحديدي بكامل سرعته.. هديره يشق ظلام الليل ويمزق عباءة الصمت , وصوته يوقظ الحقول , يجري ينادي المدن البعيدة .. والناس في عربة القطار , خف ضجيجهم , وخفت صحبهم , فمنهم الصامت , ومنهم من نام , ومنهم من يتسامر بصوت خافت .. وباعة القطار في حركة دائبة , لا تنقطع ذهاباً وإياباً , كلاً ينادي على بضاعته .. والبرد قد حول عربة القطار إلي ثلاجة .. نظرت في ساعة معصمي .. كانت تشير لمنتصف الليل ..
وصديقي لا يزال يضحك مع أم الفتاة .. وامرأة أخيها مندمجة في الحديث مع بعض الشباب .. في الكرسي المجاور .. والفتاة مازالت في شرود .. وأنا مشدود نحوها , بقوة هائلة لا استطيع الانفكاك عنها , وأريد أن أتحدث معها , ومنتظراً ريثما تعود من شرودها الذهني .. حتى أستطيع أن افتعل حديثاً معها ……
“عرفت من النساء الكثير .. ولا أبالغ لو قلت بعدد شعر رأسي .. وأحببت منهنّ الكثير .. لكن للأسف الشديد كان حباً أعرج , أو أعور , أو أبتر .. حب من طرف واحد .. حب كان محكوم عليه دائماً بالفشل ..!! ولا ادري لماذا ..؟!.. ربما لأن شكلي غير جميل ..! .. أو ربما لأني غير وسيم …؟!!.. أو ربما لأني كنت خجولاً زيادة عن ألازم .. !!..لا أدري ..؟! .. أو ربما لقلت مالي يجود, وكل شيء وارد .!!
لا أكاد أذكر ــ مرة واحدة ــ علي مدار حياتي كلها بأن هناك فتاة من الآتي عرفتهن أحبتني حب صادق بجد ــ إطلاقاً , ألبته ” نفر” ــ فأنا الذي كنت أحبهنَّ من طرف واحد , وأعشقهن لدرجة الجنون .. وكنت أكتب لهن الخطابات .. وأرصعها بأبيات من عيون الشعر .. وكنت أكتب لأصدقائي أيضاً.. خطابات ملأ بكلمات الحب والغرام ليرسلوها لفتياتهم التي عشقنهن , ويهيمن يحبهن .. وأحياناً كنت أكتب خطاباتي الغرامية من نسختين .. أعطي واحدة , وأما النسخة الأخرى أضعها في الدرج .. أحبسها مثل دموعي حتى لا يراها أحد .. وبأن كان حبي عذرياً ….” . ..
النور في عربة القطار شاحب .. أو شبه معدوم .. يصفر القطار من جديد .. يقترب من احدي المحطات .. يُبطئ من سرعته .. يتأرجح .. يتمايل .. يهدأ من سرعته .. يأتيني صوت ارتطام عجلاته , بالقضبان الحديدية .. يدرسني .. ويذكرني بفيلم .. . ” أنا وأنت وساعات السفر ” إنتاج 1985قصة وسيناريو وحوار العبقري الرائع الجميل الأستاذ ” وحيد حامد ” والإخراج للرائع الأستاذ ” محمد نبيه ” والقصة تبدأ , وتنتهي في القطار .. بطل الفيلم يجد نفسه أمام محطة مصر , تشاهد سلوى حبيبها القديم ” عزت ” في القطار , يرمي نفسه في احدي القطارات المنطلقة تواً إلي الإسكندرية , يجلس أمام غادة حسناء , يبدو عليها الثراء الفاحش في العقد الرابع من عمراها .. ترتدي نظاره سوداء .. وتبدأ هي الحوار, واسترجاع ذكرياتها معه, وهو لا يعرفها ويدور بينهما حوار طويل ( فلاش باك) وهو يحاول أن يتعرف عليها .. ولكنه يفشل .. وكان مندهش لأنها تعرفه جيدا .. وهو لا يعرفها , ظناً إنها احدي المعجبات..فالبطل”مؤلف قصص وروايات “إلا انه اكتشف في نهاية المطاف بأنها حبه الأول والأخير , تلك الفتاة الجامعية , التي لم تصبر علي حبيبها ليكون نفسه , وتمردت علي هذا الحب , لتتزوج برجل ثري , يحقق لها كل ما تريده , وما تتمناه , والذي كان ينتظرها علي المحطة في أخر الفلم”
هيئ لي للحظة أني أنا هو ذا , بطل الفيلم , وبأني أعيش بداخل الرواية , وبأن التي تجلس أمامي ما هي ألا حبيبتي التي تركتني وتزوجت بأخر غيري , ولما لا وهي تشبهها في كل شيء , وابتسمت في نفسي لسخرية الأقدار .. “
أذكر وأنا في سن المراهقة .. كنت لا أستطيع أن أنظر في وجه امرأة , أي امرأة .. فضلاً عن أن أكلمها , أو أنظر في عينيها , للحد الذي جعل الفتيات كن يسخرنً مني ويهزأنّ بي , وكان هذا يؤلمني كثيراً جداً , ويجعلني عرضة للاكتئاب النفسي ….
وأذكر أيضاً , ذات مرة أحببت فتاة , جاءت من الريف .. لتكمل تعليمها في البندر .. وشاءت الأقدار بأن تسكن في البيت المتاخم لنا .. فكانت تنظر إليّ في الذهاب والمجيء , وتضحك .. فكنت أرتبك , وأنتفض كالفأر المبلول , وأن صادف أن كنت في طريقها , أبعد عن الطريق , واسلك طريقاً أخر, وأفرد نفسي , وأمد الخطى , وقدماي تنتفض, وتخبط في بعضها , وعيناي لا ارفعهما من علي الأرض,لا لشيء سوى أني كنت أشعر بأن الناس كل الناس تنظر عليّ , بل الدنيا كلها كانت تراقبني .. وتتابع حركاتي .. وسكناتي , ومشيتي .. حتى تطور الأمر معي , إلي درجة أنها حاولت أن تكلمني أكثر من مرة .. وفي مرة .. كنت أهرب منها وأجري ……… لكزني صديقي في هذه المرة بقوة في صدري .. ولم يدعني أسترسل في تداعياتي أو أطيل في ذكرياتي أكثر من هذا.. نظرت إليه بابتسامة باهته.. وأومأت له براسي بحثت عن تلك الفتاة التي ركبت معي .. كانت لم تزل تجلس أمامي , أخذ أتأمل جمالها الرباني , وعيناها الكحيلة , في صمت مطبق , ومجذوباً إليها بقوة هلامية خفية .. وأنا مكتوف الأيدي غير أبه , ولا عابئ , ولا مكترث بكل ما يدور حولي .. وكأنها أخرجت كل ما بداخلها .. وسكبته بد اخلي .. صمت برهة من الزمن ليست بالقليلة, وأنا على تلك الحالة ,أفكر هذه الفتاة , التي جاءت من الريف .. لتسكن بالبيت المتاخم لنا.. ذات التاسعة عشر ربيعا , وكيف استطاعت بذكائها أن تخرجني من حالة الخجل الشديد التي كانت تتملكني .. وكيف غزوتني بجيوش من الرغبة المحمومة نحوها .. بعدما أضاءت كل المصابيح المظلمة بداخلي .. وفتحت باباً لم استطع إغلاقه حتى الآن .. وقتها كنت في المرحلة ألثانوية.. تلك الفتاة الريفية.. ذات البشرة البيضاء الناعمة.., والحيوية.. والذكاء الفطري الذي كانت تمتلكه .. والجرأة التي كانت تتمتع بها .. وأنا كنت خجولا جدا.. ولا استطيع أن أصرح لها بحبي .. حتى تشجعت ذات مرة .. وأرسلت لها خطاب غرامي .. قلت لها فيه كل ما يجول بداخلي .. وكل ما اشعر به من ناحيتها , وشرحت لها حالي , وفي النهاية طلبت ميعاد , وكانت مفاجأة السارة جاءت في ميعادها .. تحدثنا كثيرا .. ومشينا كثيراً .. والأيد في الأيد .. قد تشابكت وحنت , وروت لي الكثير عن أبيها .. الذي يريد ان يزوجها بأبن عمها .. وكيف كان لا يريد أن تكمل تعليمها .. ولكن تحت بكائها , وتحنن أمها , وافق علي مضض .. بأن تتعلم وفقط , وكيف وضع عليها عيون في كل مكان , تراقبها , ليعرف أخبارها أول بأول .. وعن إخوتها الذين هم أشد قسوة من أبيهم .. وكيف … وكيف .. وكنت أستمع لها .. ولا أدري ماذا أقول .. ولا ماذا أفعل , حتى لا يأخذها غيري , أو لا تتزوج من ابن عمها , وشعرت بالفرح والحزن والسعادة , والأسى في آن واحدة .. وتوالت اللقاءات بيننا , وكان حبها يكبر في داخلي بداخلي ـ يوماً بعد يوم ــ حتى كانت النهاية .. أبيها ـ لا سامحه الله ـ علم بما كان مني ومنها .. فاحتبسها في البيت ثم أرسل إخوتها .. لأخذ حاجتها من السكن .. وأصر بأن يتم زواجها من هذا الأبله المعتوه دون أن تتم تعليمها .. ورحلت فجأة عن الشارع .. وانقطعت أخبارها عنى ولم اعد أراها بعد ذالك .. حكايتي مع تلك الفتاة كانت حكاية عجيبة…” ….
الكمسري يهزني من كتفي .. ليعيدني إلي عربة القطار, وصديقي ينظر إلي أم الفتاة وهو يبتسم , أخرج التذكرة من جيبي , أعطيها له , والقطار يخبط , ويخبط ويهتز بمن فيه .. ويرتج كل من بداخله .. وأنا أنظر من النافذة , وصديقي يدير الحديث .. مع أم الفتاة بكفاءة واقتدار .. ..
رأيت القمر كالعُرجون .. والمصابيح المصطفي على جانبي الطريق .. بمحاذاة الجسر الحربي .. والبيوت النائمة وسط الحقول .. والتي لم يزال ينبعث .. منها الضوء الشاحب .. والهواء البارد يعبث بأوراق الشجر .. والنخيل النائم في سكون والترعة الصغيرة التي تمشى بمحاذاة القطار .. يا لها من ليلة , لم ولن أنساها ما حييت .. فتاة جميلة وكأنها البدر.. نزل من السماء ليجلس أمامي .. لكنها شاردة الذهن .. وسارحة العقل .. والقطار ينساب كالريح , يزمجر, يخبط , يهتز , ويتمايل وكأنه يرقص في عرس أسطوري رائعة.. والليلة شتوية بامتياز ..
وأنا تستدعيني الذكريات مع تلك الفتاة الجميلة .. التي كانت تسكن بجوار بيتنا .. والتي قصصت قصتها ـ ذات يوم ـ لصديقي وعربة المشروع تضرب قلب الصحراء وتسير بين التلال , والكثبان الرملية الممتدة .. وفوق رؤؤسنا الجبال , تطل علينا بعبق الماضي السحيق , شامخة وأبية .. وكان القمر مكتمل فوقنا .. يومها تجازينا أطراف الحديث .. تسامرنا , تكلمنا في كل شيء , وفلسفنا كل شيء .. تكلمنا عن الحياة , وعن الحب , والأدب , والشعر , والنساء .. حتى المشي على الرمال .. حينها طلب منى .. أن أحكي له مغامراتي النسائية .. كما حكي لي هو أيضاً …
في البداية رفضت .. ولكن تحت الإصرار الشديد .. وجدتني أحكى له بعفوية .. وأقص عليه بدون توقف .. أو انقطاع …….
أذكر مرة مضحكة .. كنت فوق الدار أٌذاكر .. وكانت الدنيا غائمة .. وكان الوقت مساءً .. وكانت السماء تنذر بالمطر, وكنت مستغرقاً في المذاكرة , وكان الجدار, الفاصل بيننا عبارة عن طين , وأعواد من القش والبوص .. حينها سمعت حينها صوت ” بسبسات ” بصوت خافت يعقبها اسمي .. التفت لقيتها هي واقفة بفستانها الأحمر الزاهي , وقد حلت شعرها الأسمر الطويل , وكشفت عن زراعيها , ورقبتها البيضاء .. وكانت تلك المرة هي الأولي, التي أراها بثياب مختلف عن زي المدرسة ثم أشارت نحوي بيدها أن أقبل , فشعرت بقلبي يكاد يقفذ من صدري , وقد ازدادت دقاته فجأة ولا أدري لماذا ..؟!.. ربما من الخوف .. أو ربما من الحب …. أو ربما لأني لم يحدث معي هذا من قبل , بأن فتاة تكلمني بهذه الطريقة .. حينها وقعت في ” حيص , بيص ” عدلت من جلستي , وانتبهت , وعرقي , مرقي , صار شلالات وهي لم تزل ” تبسبس” علي وتضحك وتشير إليّ أن أقبل ..وأنا لم أقم من مقامي, ولم أتحرك , ولم أنطق ببنت شفه , فلو نطق أبو الهول لنطقت , ولو تحرك الجبل من مكانه لتحركت, فقط اكتفيت بالنظر إليها , وفقط ,وقد أصابني الذهول, ولبهت , والخرس , وهي واقفة تناديني بصوت خافت , وتشير إلي بيدها البضّة وأنا جالس مكاني .. ساعة من الزمان , أو يزيد , والجو قد قلب فجأة , وتغير .. وفجأة أمطرت علينا السماء .. وكان المطر غزيراً لدرجة أني خبأت كتابي حتى لا يبتل .. وجلست أستمتع بالمطر وهو يغسل البيوت , والشوارع , والعربات , والشجر , فأنا أحب نزول المطر , ورائحة مدينتي عندما يغسلها المطر .. وشعرت بالسعادة ترفرف في أجناب الكون الفسيح , وأنا أرفرف معها كالطير الذي عاد تواً إلي عشه , وبدأت أشعر بإحساس غريب.. ولأول مرة في حياتي أشعر وأحس , بهذا الإحساس الجميل الرائع يدخلني وهي تلعب وتلهو مع المطر .. كما لو أنها طفلة صغيرة .. رقصت .. غنت , علي صوت موسيقي منبعثة من جهاز قريب .. وابتل شعرها الأسود الطويل .. فجمعته وتعصره بين يديها البيضاء كالعاج كما لو أنها تعصر قطعة من الحرير .. وراحت تغني مع المغني ….
ــ أهواك , وأتمنى لو أنساك , وانسي روحي وياك ,)) ….
يقف القطار على الرصيف .. أمام أحد المقاعد .. أنظر من النافذة المكسورة , أبحث عن اليافطة .. بعض الركاب ينزلون من القطار .. ويركب آخرون , فتتخير الوجوه والأماكن .. والأنوار التي على الرصيف تغزو القطار .. وصديقي لم يثرثر .. مع أم الفتاة , وهي تنصت له , وربما شاركته الكلام .. والفتاة التي تجلس أمامي .. تنظر معي من النافذة , شاب وفتاة يأتيان يجلسان على احد المقاعد, فحولت بصري إليها , فانتبهت , خرجا مني تنهيدة عفوية , فتبسمت , وبعض الركاب يتجولون على الرصيف .. وكأنها تريد أن تشجعني تُشجعني على الحديث معها , سألتني
ــ أي بلدٍ هذه :
سريعاً سألت أحد المترجلين على الرصيف
ــ مركز مغاغة
ــ ……….
شكرتني وهي مبتسمة .. أخرجت علبت سجائري أشعلت واحده , وأعطيت صديقي واحدة .. وأنا أنظر ألي الفتاة الغريبة الغامضة التي أمامي , والتي لم أعرف بعد أسمها حتى الآن .. ولم تأتي الفرصة حتى الآن لكي أسألها , كما أني لا أريد أن أعرف اسمها , فالأسماء لا تعنيني كثيراً , بقدر ما يعنيني الإنسان .. وقلت : بصوت يسمع اليقظ , ولا يوقظ النائم .. وكأني اكلم نفسي ..
ــ بلد حسن ونعيمة ..
فأجابتني , والابتسامة الجميلة توءم شفتيها , وعينيها لم تفارق النافذة :
ــ أعرف تلك القصة , أنا بحبها …..؟
ــ وأنا أعرفها لكن بها كثيراً من المغالطات , والمبالغات ..
ورحت أسرد لها القصة , يتسحب القطار ببط , تاركاً المحطة , مثل حديثي الذي دار مع الفتاة .. وهي تنصت لي باهتمام بالغ , وكأنها تريد أن تعرف أكثر عن قصة حب حسن ونعيمة , بابتسامه جميلة ألتفت إلي , وبحركة من يدها تزيد من جمالها وأنا تابعت حديثها معي قالت
– أنا بحب السهر , والسفر بالقطار .. وأحب قراءة القصص ..
ــ أنا أعرف الذي يحب الليل .. هم العاشقين ؟؟؟
ــ ما أجمل هذه الليل ..؟! ..
– تعرفي مين أول من سهر الليل ……
ــ ……………؟ّ!!!!!
ــ حواء
ــ حواء ؟؟!!!!!
قالتها باندهاشه , طابور من علامات التعجب , أصطف في عيناها الواسعة .. وعلامة استفهام كبيرة ملأت وجهها ألأبيض الجميل .. وفمها المعقود قد أفصح عن صفين من ألؤلؤ , وكأنها تستحثني أن أكمل حديثي معها .. فوجدتني لا املك إلا أن استطرد في حديثي معها .. وأبين لها أصل الحكاية ..
ــ دي حكاية طويلة .. يكفى انكِ تعرفي .. لما نزل أدم وحواء من الجنة لم ينزلا معاً في مكان واحد .. وإنما نزل كل منهما في مكان مختلف .. فذهبا ليبحث كل منهما عن الأخر .. فكان أدم يبحث عنها في النهار, وينام بالليل .. أمَّ حواء فكانت تبحث عنه بالليل والنهار.. فلما رأته مقبلا من بعيد جلست مكانها.. فلما اقترب منها
ــ أنت تجلسين هاهنا .. وأنا أبحث عنك . ؟! ..
ــ ما تركت مكاني منذ نزلت ..
ــ يعني إيه حواء كذابة مثلاً ..
ــ حاشا وكلا .. من قال هذا .. ؟
ــ أنت تقول هذا .. !
ـــ لا لا .. هذا اثر .. أو قولي خبر قرأته في كاتب ” البداية والنهاية ” لابن كثير ــ وبصراحة أنا غير مصدقه , لكن أنتِ لماذا أخذتِ منه الجانب السيئ , ولم لا تأخذي منه الجانب الايجابي
ـــ اللي هو إيه ..؟
ــ اللي هو إني أمنا حواء , كانت تحب أبينا أدم , أكثر ” عليهما السلام “
ــ ههههه .. وممكن تقول كانت خائفة عليه ليضيع منها ..
ـ وممكن أيضاً تقولي .. بأنها هي نفسها كانت خائفة .. بحكم إنها أنثي وضعيفة وتبحث عن الأمن والحنان ..
وأخذت تحكى .. وأنا مقبل على حديثها.. وكأني أجلس أمام أستاذة جامعية في علم الاجتماع تخرجت من احدي الجامعات العالمية , ورحت أستمع إلى صوتها الدافئ العذب المفعم بالأنوثة .. بنبرة صافية صادقة .. وأنا أنظر في عينيها .. فيدخلني الخوف..والعجب
– ما رأيك في الحب ..؟
– خرافة.. لكنها جميلة .. أأنتِ تؤمني بهذه السخافات ..؟.!
ابتسمت في اندهاش .. ثم سكتت .. والسؤال لم يزل علقاً بعينيها .. وعلامة استقاهم كبيرة .. ورائها طابور من علامات التعجب .. وأنا أكمل
– الحب أكذوبة كبري .. أخترعها الإنسان في الأرض .. ليخبأ ورائها أغراضه الحيوانية الدنيئة .. وأنا أسف عن هذا التعبير السخيف …
– هههههه.. يااااه ..؟!! .. أنت مصدوم صدمه واعره …؟!!!
– وفي النهاية عرفت أنى الحب العذري ..الذي كنت ابحث عنه وانشده غير موجود في هذا الزمان.. انقرض كالدينصورات ممكن تقولي حاجة زي كده ..
– أمال إيه الموجود الآن ..؟!
– النفعية .. والاحتياج .. وتبادل مصالح .. الرجل محتاج لامرأة تقوم على خدمته .. وتنجب له الأولاد وتأنس وحدته .. والمرأة تحتاج لرجل يحميها .. ويلبى حاجياتها .. وطلباتها.. ويشعرها بأنوثتها .. و…..؟؟
– أنت أتجنن بجد .. جبت الكلام ده منين .. ؟
– من مدرسة الحياة .. الحياة علمتني كتير .. والدنيا مدرسة
– والحب من أول نظرة ..؟.. كلام فارغ برضك..
ـ اسمحي لي .. ما فيش حب من أول نظرة .. ولا من أخر نظرة
– أنت متشائم قوى.. ونظرتك للحياة سوداوية.. يا بني اقلع النظارة السوداء اللي على عينك عشان تشوف الحياة حلوة .. وكلها ألوان زاهية وجميلة ……
ثم انقطع الكلام بيننا فجأة , وبردة جذوة الحديث .. وعاد كلا منا إلي ما كان عليه قبل هذا .. هي تنظر من النافذة وتشرد , وأنا أنظر إليها حيناً , وحيناً أخر اشترك في الحوار الدائر بين أم الفتاة وصديقي .. وهو ينظر إلى باهتمام .. ويضحك من حين لأخر .. وكأنه غير مصدق ما أقول .. أو ربما يريد لفت نظري بأن القسمة قد قسمت من البداية .. فضحك بملأ فيه .. وأنا لأقول له بنبرة ساخرة مازحة ………..
ــ ” ماشى يا عم الدنجوان ” …
ــ ……………………
استرخيت علي المقعد .. مكتفياً بالنظر , وبالصمت , والذكريات تتزاحم في رأسي, أتذكر .. ” عندما مرضت .. طلب مني قائد الكتيبة .. لما رأني غير قادرعلي طابور اللياقة البدنية .. ذهب بي إلي مكتب الإفراد .. وطلب من الشاويش” فراج ” أن يعطيني ” أورنيك ” مرضي .. وبالفعل خرجت مع عربة التعينات .. وذهبت إلي المشفى العسكري .. وكانت تلك هي المرة الأولي التي دخلت فيها .. مشفى عسكري في حياتي .. ولا استطيع مهما أوتيت من فصاحة لسان , وبراعة وصف , أو بيان أعبر عن مدي جمال المكان الذي يطل علي النيل .. وقمة الرعاية الصحية التي تلقيتها , والاهتمام .. وراحة النفس التي وجدتها هناك .. كان كل شيء فيها علي أعلي مستوي , من نظافة , وعلاج , وراحة تامة .. تشعرك وكأنك في فندق خمسة نجوم .. الجميع هناك يهتمون بك .. يراعوك ويخافون علي حياتك وكأنك واحد من أهلهم غالي , وعزيز لديهم ” .. تمنيت لو قضيت جيشي كله هناك .. وتمنيت أيضاً بأن أجد كل هذا الجمال والاهتمام , في جميع المستشفيات التي بالخارج .. قضيت بضعة أيام .. كانت من أجمل أيام عمري .. الجو كان رمضان .. والمكان هادئ .. ونظيف .. واهتمام ورعاية .. تفوق الحد , والوصف , والخيال , كل شيء بمواعيد وانتظام , كل من يراك يسأل عنك , ويدعو لك ,ويتمني لك الشفاء العاجل , ويتمني بأن يقدم لك أي خدمة , تطلبها .. شعرت بينهم وكأني بين أهلي وناسي .. لم اشعر بالغربة .. أو الضيق , أو الملل , ولو للحظة واحدة , مع أني سريع الملل والضيق ولا أحب أن أنام , في مكان أخر غير مكاني , إلا بصعوبة بالغة .. ومع ذلك نمت في هذا المكان , وشبعت نوم .. وانقضت تلك الأيام سريعة .. وكأنها سويعات قليلة .. بل دقائق معدودة .. وقبل أن أغادر المستشفى .. أعطوني جوابان أرجع بهما إلي . ” الوحدة “.. وصلت الي كتيبتي .. دخلت علي البوابة .. لمحوني العساكر من بعيد التفوا حولي .. منهم من يقبلني .. ومنهم من يضاحكني .. ومنهم من يسندني .. حتي وصلت الي مكتب الافراد .. ورآني الشاويش ” فراج “.. فقام من مقامه .. وسلم علي ببسمة عريضة .. ثم أمر العساكر بالانصراف إلي أماكنهم .. والا هم عارفين الذي سيحصل لهم .. اعطيته الجوابان .. نظر فيهما وهز راسه .. وهمهم بكلمات لم يصلني منها شيء .. ثم دفعهما الي الشاويش ..” محمد عبد الهادي ” .. وهو يقول له ..
ــ ” خذ نزل دولا عندك .. واعمل له تصريح مع اليومية.. الطالعة النهار ده .. بأسبوع نقاهة .. عشان الحق امضيها من فوق .. قبل ما سيادة العميد يخرج ..”..
يصفر القطار من جديد , معلناً عن وصوله لأحدي المحطات القادمة , وهو يهدأ كعادته من سرعته .. انتبهت .. لأجد الفتاة تنظر إلي نظرة فاحصة , وغامضة , حاولت تفسيراً لها فأعيني الأمر .. ساد المكان قليلا من الصمت .. أردت أن أتعرف إلي أين وصل القطار .. أخرجت رأسي من النافذة .. مازال الليل جاثم .. والضوء خافت .. والبنايات النائمة وسط الحقول التي ينبعث منها عبق التاريخ .. تظهر وتختفي سريعا .. عربات مسافرة علي الجسر .. وصديقي مندمج .. في الحوار مع أم الفتاة .. التي تضحك من كلامة .. الذي لا يصلني منه شيء .. …
لا أدري لماذا تذكرت أبي في هذه اللحظة .. ربما لأني سأراه بعد سويعات قلائل .. وربما لأني اشتقت إليه كثيرا ..أبي يبلغ من العمر سبعين سنة .. ولم يتقوس ظهره ولم ينحني إلا لله .. منذ وعيت علي الدنيا .. وانا راه مثلا اعلي لي .. وركن شديد .. لكنه يملك بداخله قلب كبير .. حنون جدا.. ابي طيب القلب .. و فقير .. لكنه يحمل ملامح الأرض .. وطباع البحر .. واخلاق القران .. قبل أن أُسافر أخر مرة .. جلست لجواره تبادلنا اطراف الحديث .. وقبل ان ارحل عنه وأودعه رأيت الدموع في عينيه وهي تترقرق , لتستوقف تفكيري, فلم ادري إلا وأنا قد ارتميت في صدره ليضمني بين زراعيه .. كما كان يفعل معي , وأنا طفلً صغير , واخذا يقبلني وهو يصارع دموعه .. وكلماته راحت تتلاشه خلف صوته المتحشرِج .. حينها بكيت ولا ادري لماذا بكيت , وأخذت اقبل يده ورأسه , وهو يربت علي كتفي , بيده السمراء ذات العروق النافرة .. ثم يهزني وهو يقول لي , بصوت ُملئ جمالاً وحنان .. صوت لن أنساه أبداً .. انه صوت ابي الطيب ..
ــ انت خلاص بقيت راجل وكبرت يا ولد … !
ــ …………
القطار لا يزال ينساب فوق شريطه الحديدي بكامل سرعته.. هديره يشق ظلام الليل ويمزق عباءة الصمت , وصوته يوقظ الحقول , يجري ينادي المدن البعيدة .. والناس في عربة القطار , خف ضجيجهم , وخفت صحبهم , فمنهم الصامت , ومنهم من نام , ومنهم من يتسامر بصوت خافت .. وباعة القطار في حركة دائبة , لا تنقطع ذهاباً وإياباً , كلاً ينادي على بضاعته .. والبرد قد حول عربة القطار إلي ثلاجة .. نظرت في ساعة معصمي .. كانت تشير لمنتصف الليل ..
وصديقي لا يزال يضحك مع أم الفتاة .. وامرأة أخيها مندمجة في الحديث مع بعض الشباب .. في الكرسي المجاور .. والفتاة مازالت في شرود .. وأنا مشدود نحوها , بقوة هائلة لا استطيع الانفكاك عنها , وأريد أن أتحدث معها , ومنتظراً ريثما تعود من شرودها الذهني .. حتى أستطيع أن افتعل حديثاً معها من جديد .. أخرجت تذكرة السفر قرأتها .. ريثما تعود تلك الفتاة .. من عالمها الخيالي الذي ذهبت إليه .. بعيداً عني .. ألم أقل لكم بأني كنت خجولاً جداً ………….
************
على السيد محمد حزين ــ طهطا ــ سوهاج ــ مصر