مدينة بغداد الحضارية

مدينة بغداد الحضارية
مدينة بغداد الحضارية

مدينة بغداد الحضارية

بقلم / سحر عبد العاطى

إختلف المؤرخين على أصل كلمة بغداد فهناك عدة آراء مختلفة من أشهرها :

– إن لفظة بغداد فارسية الأصل تتكون من مقطعين الأول ” بغ ” أى الله ، والثانية ” داد ” أى تأسيس فيكون المعنى ” أسسها الله ” أو “مؤسسة الله “

– والبعض يقول أن أصل لفظة بغداد آرمى وهو يتألف من كلمتين “ب “أى بيت وكثيرا ما تقع فى اوائل أسماء المدن مثل ” بعقوبة ” والكلمة الثانية ” كداد ” أى غنم أو ضأن ويكون المعنى بيت أو دار الغنم أو الضأن ، ويرجح هذا الإسم أن هناك سوق كبير فمن المحتمل أنهم كانوا يبتعون فيها الغنم والضأن فى أول الأمر .

– وقد أطلق عليها المنصور إسم ” مدينة السلام ” وذلك لأن دجلة تسمى ” بوادى السلام ” وأن السلام هو “الله ” وبذلك تكون ” مدينة الله ” وكانت تضرب النقود العباسية بهذا الإسم

فبعد أن تولى العباسيون الخلافة إتخذوا الكوفة عاصمة لهم ثم بنوا مدينة على مقربة من الكوفة سميت الهاشمية، وعندما تولى المنصور الخلافة ( ثانى الخلفاء العباسين ) فكر فى نقل العاصمة إلى مكان يأمن فيه الفتن والإعتداءات فوقع إختياره على على تلك المنطقة التى تقع فى الجنوب بين نهرى دجلة والفرات ، وكان إختياره لتلك المنطقة لعدة أسباب تتفق مع الشروط التى وضعها العلماء لإختيار الموقع التى تقام عليها المدن الإسلامية حيث لابد أن يكون هناك إتصال مباشر بين المدينة الجديدة ومركز الخلافة وأن يكون الموقع محمى طبيعيا بأن يقع على تلال أو هضاب أو على نهر كما لابد أن يتمتع المكان بطيب الهواء وأن يصل إليه الماء العذب

فكان هذا الموقع يقع بين نهرى دجلة والفرات وتصل إليه البضائع والغذاء من الهند والسند والصين والبصرة وغيرها، وهى منطقة محمية طبيعيا حيث تقع بين نهرين لايصل إليها العدو فهى قريبة من البر والبحر والجبل كما أنها أقرب نقطة بين دجلة والفرات ووسط بلاد الغرب والعجم بالإضافة إلى أنها على مقربة من المدائن عاصمة الفرس القديمة

بدأ البناء فيها سنة 141 هـ – 768 م وقد حشر الصناع والفعله من الشام والموصل والكوفة وقام باختيار أهل الفضل والعدالة والفقه والأمانة والمعرفة الهندسية، وإنتهى البناء بعد ثمانية أعوام فى عهد الخليفة أبو جعفر المنصور، وعندما ظهرت المدينة لأول مرة كان شكلها دائرى يحيط بها سورين، سور داخلى وسور خارجى، وفى كل سور أربعة أبواب بين كل باب وآخر ميلا واحدا ، وعلى كل باب قبة وعلى رأس كل قبة منها تمثال يتجه إلى حيث تأتى الريح ، وبين كل قبتين ثمانى وعشرين برجا ، وحفر أمام السور الخارجى خندق عميق .

وأقام المنصور فى وسط المدينة قصره المعروف بقصر الذهب وبنى فوق القصر قبة معروفة بالقبة الخضراء ، ثم أقام حول مركز المدينة سورا داخليا ثالثا، بعد الإنتهاء من بناء المدينة نقل المنصور إليها الخزائن وبيوت المال والدواوين ، وجعل أسواق المدينة بين السورين الثانى والثالث .

ثم بدأ المنصور بالإصلاح الداخلى للبلاد وإستتب الأمن وإتسع العمران وأقبل الناس على طلب العلوم فى جميع المجالات فإتسعت رقعة بغداد وإزدحمت بالسكان

وإستمرت بغداد على ذلك الحال إلى أن جاء عصر هارون الرشيد الذى يعتبر أزهى عصور بنى العباس فقد وصلت بغداد فى هذا العصر إلى قمة مجدها ، حيث إمتدت الأبنية فى الجانبين حتى أصبحت بغداد كأنها مدن متلاصقة، وكان يأتى إليها الخيرات من جميع المدن الإسلامية ونمت فيها الثروة وإمتلئت خزائن الدولة بالذهب والفضة . وفى سنة 334 هـ تولى بنى بويه الحكم فى بغداد ، وفى عهدهم وصل العلم والأدب إلى القمة فنشأ آكابر المفسرين والمحدثين والفقهاء والمؤرخين والكتاب والشعراء ولكن أثناء حكمهم امتحنت بغداد بشتى المحن من إختلال الأمن داخلها وخارجها وتفاقم أمر المجاعات وإستيلاء رجال الجند على الضياع والقرى والتضيق على الفلاحين وإستمرت تلك الأحوال إلى سنة 552هـ بدأ إنهيار الخلافة العباسية حيث لم يبقى فى يد الخلفاء إلا بغداد وأعمالها وقليل مما يتصل بها ، كما خلت بغداد فى ذلك العصر من بنى بويه ومن الأجناد الأتراك وغيرهم من أهل الشغب ورواد الفتن ، وكان الخلفاء منذ ذلك العصر ميالين إلى نشر العدل والترفيه على الرعيه والإكثار من إقامة دور العلم والمساجد والملاجئ الخيرية .

وفى سنة 656هـ نزل هولاكو قائد المغول على بغداد وحاصرها فكانت حروب ودمار وإندلعت نيران الفتن وقتل الخليفة المستعصم وأولاده ورجال حاشيته وبذلك أفلت شمس الخلافة العباسية فى بغداد بعد أن إستمرت اكثر من خمسة قرون ووقعت بغداد فى يد المغول وبدات سلسلة الإنتهاكات لمدينة بغداد وتدمير حضارتها وعمرانها على يد المغول ومن جاء بعدهم من الأتراك والصفوين والعثمانين ثم الإنجليز، فقد إستمرت بغداد نابضة بالحضارة إلى دخول المغول إليها حيث قتلوا أهلها ودمروا مكتباتها

لم تكد الدولة العباسية تتخذ بغداد عاصمة لها حتى أقبل الناس إليها من كل مكان ، وتكاثف فيها رجال المال فقاموا بإنشاء الدور والقصور الفخمة إلى أن وصلت بغداد إلى ما لم تصل إليه أى مدينة أخرى من التقدم والعمران ولكن كثرة الخطوب والكوارث التى تعرضت لها المدينة فمزقتها ومحت آثارها وحضارتها وطمست معالمها حتى لم يبقى من رسومها اليوم آثر يمكن أن يهتدى به الباحث المنقب إلى تعين المواضع التى كانت تقوم عليها تلك القصور الشامخة والمبانى الشاهقة والمساجد والمدارس العظيمة فيما عدا بعض الآثار القليلة والتى سوف نلقى الضوء عليها وهى :

* باب الطلسم : يقع فى وسط المدينة ناحية الشرق وكان يسمى ( باب الظفرية ) وقديما كان يسمى ( باب الحلبة ) وهو الباب الوحيد الذى عليه كتابات من العصر العباسى .

* باب البصلية : يقع فى أقصى الجنوب وأطلق عليه بعض المؤرخين إسم ( باب كلواذى ) وذلك لأن السالك إلى قرية كلواذى يمر بهذا الباب .

كما يوجد بها بعض المساجد الآثرية أشهرها:

*جامع الأعظم : كان يعرف بجامع ابو حنيفة حيث يوجد به قبر افمام أبى حنيفة المتوفى سنة 150 هـ ، وكان هذا المسجد كبيرا وواسعا وفى سنة 1288 هـ تداعى البناء ومالت أجزاء منه فأمر السلطان عبد العزيز خان بتجديده وتوسعته فأصبح يسع من المصليين الألوف ، وقد عقدت فيه أعمدة من الرخام الأبيض وأحدث فى جهتين المصلى رواق واسع معقود على سور من الرخام ، وأنشأت مدرسة عن يمين المصلى ذات طبقتين الطبقة العليا للشتاء والسفلى للصيف ، كما بنيت حجرة كبيرة متصلة بسور المسجد أعدت للطلبة والفقراء المجاورين ويوجد حول الجامع قصبة صغيرة تشتمل على بيوت ومنازل وقصور فاخرة على ساحل دجلة وفيه كثير من الحدائق والبساتين وفيها أيضا سوق وحمام ، وقد أنشأ مآذنة جديدة وقبة لتكون قاعتها مكتبة كبيرة خاصة بالجامع.

* جامع الخلفاء :كان هذا الجامع أيام الخلافة العباسية واسع جدا وكان فوق المصلى قبة عظيمة وحولها مآذنة شامخة ويعتقد أن هذا الجامع هو جامع القصر الذى بناه الخليفة المنصور ، ولكن خرب هذا الجامع ولم يبقى سوى مآذنته التاريخية وصار مكانه سوق واسع ،وقد قامت رئاسة ديوان الأوقاف بإعادة بناؤه مع الحفاظ على طابعه الإسلامى والتاريخى سنة 1969 م

*مسجد الآصفية : هو مسجد من المساجد القديمة يطل على دجلة وجسر بغداد، أقام داود باشا بإعادة بناؤه وأقام به مصلى واسع عليه قبة محكمة البناء وبنى عند جانبيها مآذنتين بالحجر الملون . كما بنى خارج المصلى طبقتين وجعل فيه مدرستين ، وقد تم العديد من الإصلاحات لهذا المسجد . فى داخل هذا المسجد مشهد لبعض صلحاء الأمة ويوجد مشهد عن شمال الداخل فى الرواق يقال انه قبر أبى جعفر المستنصر بالله الخليفة العباسى الذى بنى المدرسة المستنصرية حيث كان هذا المسجد من مرافق المدرسة ومتمماته.

* جامع السهروردى : وهو من أقدم جوامع بغداد . يقع بالقرب من سور الرصافة عند الباب الأوسط ، فيه مصلى واسع ومدرسة وحجر يسكنها خدمة المسجد وبجوار الجامع يوجد قبة مخروطية الشكل تظلل قبر الشيخ السهروردى المتوفى سنة 632 هـ وتعتبر هذه القبة من أقدم الآثار التاريخية فى بغداد ، ولهذا المسجد مآذنة بنيت بالحجر الكاش الملون ، وفيه سقاية من ماء دجلة يجرى إليها بقناه .

* مسجد الشيخ عبد القادر الجيلى : كان هذا الجامع فى الأصل مدرسة للحنابلة بناه أبو سعيد المبارك بن على المخزومى الفقية الحنبلى وجددها تلميذه الشيخ عبد القادر الجيلى وأضاف عليها وعمرها ولما توفى سنة 569 هـ دفن فى رواقها ، وبعد وفاته بزمن أتخذت هذه المدرسة مسجدا لايزال قائما وهو من أوسع مساجد بغداد ، وأقيم عليه قبة تعد أعظم قبة فى مساجد بغداد ، ويوجد به مكتبة تضم كتب مخطوطة تجمعت من عهد الشيخ عبد القادر الكيلانى .

* مسجد الكاظمين والجوادين : يقع فى الجانب الغربى ويشتمل على ضريح الإمام موسى الكاظم بن جعفرالصادق وحفيده محمد الجواد ، وهو واسع به فناء رحب ، ويوجد على المشهد قبة عظيمة من الذهب ، ولكن عندما حصر المغول بغداد سنة 656 هـ أصيب هذا المسجد بتدمير كبير، وفى سنة 1300 هـ قام ( فرهادميررا ) أحد أكابر إيران ببناء سور الجامع بالحجر الكاش الملون وفرش الساحة بالمرمر ، ويقوم اليوم على هذين الضريحين مسجد واسع رفعت قبابه فى السماء وأحيط بأربع مآذن شوامخ وغشى كل ذلك بصفائح من النحاس مطلية بالذهب وزين سائر جدرانه بالقشانى ، ويعد هذا المشهد اليوم من الأماكن المقدسة عند المسلمين هناك.

*مسجد معروف الكرخى : يوجد فى الجانب الغربى فيه مصلى واسع ، وفيه قبر الشيخ معروف الكرخى فى سرداب عميق معقود عليه عقد بالآجر والجص ، وكان الشيخ معروف مسيحى الأصل ولكنه أسلم على يد على بن موسى الرضا وعد من مواليه وتوفى سنة 200 هـ .

* جامع القمرية : يوجد فى الجانب الغربى يطل على ساحل دجلة ، لم يعرف بانيه بالضبط يظن أنه تم بناؤه فى أواخر العهد العباسى ، فيه مصلى واسع تظله قبة رفيعة السمك و فيه منافذ من جهة القبلة على حديقة من أوقاف المسجد وحول القبة مآذنة مبنية بالآجر والجص قديمة العهد ، قد إختل البناء ومال إلى الإنهدام سنة 1230 هـ فتداركه سعيد باشا والى بغداد وأعاد عمارته إلى أحسن مما كانت عليه.

* جامع الأحمدى : هو جامع كبير يقع أمام ساحة الميدان ، سمى بذلك الإسم نسبة إلى أحمد باشا كتخدا سليمان باشا الصغير، يوجد على المصلى قبة شامخة مبنية بالحجر الكاشانى الملون مكتنفة بقبتين أصغر منها عليها نتوش وبجانب المصلى من الجهة الجنوبية مدرسة ذات طبقتين طبقة عليا فيها حجرة للمدرس وحجرة للطلبة وحجرة خزانة لكتبها ، وطبقة سفلى وفيها حجرة يسكنها بعض الفقراء والغرباء ، ويحيط بالمسجد والمدرسة سور مرتفع وفيه من الجهات الأربع أبواب تنفذ إلى ساحته .

310598074 470038695171725 3076118984250233628 n

أما بالنسبة إلى المدارس الآثرية فإن جميع المدارس القديمة المتبقية إلى يومنا هذا متصلة بالمساجد فيما عدا المدرسة المستنصرية ؛ فهى مدرسة عظيمة الشأن تقع على شاطئ دجلة ، وهى المدرسة العباسية الوحيدة التى بقيت إلى الآن محتفظة بالكثير من الكتابات التى سطرت على جدرانها ، فقد أنشائها الخليفة العباسى ابو جعفر المستنصر بالله سنة 630 هـ ، وكان بها بيمارستان ومزملة للماء البارد وخزانة للكتب تحتوى على اعداد وفيرة من الكتب النفيسة والأصول المحتوية على جميع العلوم ، ولكن خربت على يد المغول ونهبت ورميت كتبها فى نهر دجلة بينما المبنى مازال قائم، ثم قام سليمان باشا الكبير والى بغداد سنة 1193 هـ ببناء مدرسة كبيرة وأطلق عليها إسم المدرسة السليمانية وحول المدرسة المستنصرية الى خان وجعله وقفا على مدرسته ، ولا زال يطلق على المدرسة المستنصرية اسم ” خان الموصليين ” فلولا ما كتب على الجدران لم يعلم أحد أنها المدرسة التى أنشئها الخليفة ابو جعفر.

فكانت بغداد مدرسة متكاملة فى شتى مجالات المعرفة والثقافة، وتوسعت دائرة التعليم العام وإستدعاء الأساتذة من مختلف أقطار العالم وأكثروا من إنشاء المكتبات العامة والمدارس والمختبرات فى كل مكان ، وكانت لهم إكتشافات مهمة فى أكثر العلوم وانتقلت علومهم وثقافتهم إلى مختلف بلدان العالم فى العصور الوسطى، وإنتشرت كتبها ومؤلفاتها فى بلاد العالم وخاصة الأندلس وقرطبة مثل كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيدى الذى وصل إلى الأندلس، وابو على القالى البغدادى صاحب كتاب الأمالى الذى حمل إلى قرطبة أحمالا كثيرة من الكتب النفيسة لمؤلفين وعلماء بغداد وقد لقبه الأندلسيون بالبغدادى حيث أشتهر بحلقاته التدريسية، ومن تلاميذه أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدى، و تقى بن مخلد بن يزيد الأندلسى الذى زار بغداد وتتلمذ على يد الفقيه الإمام أحمد بن حنبل .

ومن كبار فقهاء الإسلام الذين نشأوا ونشطوا فى بغداد الإمام أبو حنيفة النعمان المتوفى سنة 150 هـ ، والإمام أحمد بن حنبل المتوفى سنة 240 هـ .

وهناك العالم الكبير عبد اللطيف البغدادى المعروف بإبن اللباد وهو من فلاسفة الإسلام وأحد العلماء المكثرين من التصنيف فى الحكمة وعلم النفس والطب والتاريخ والبلدان والآدب ومن أشهر كتبه الإفادة والاعتبار بما فى مصر من آثار توفى سنة 629 هـ .

المراجع :

– السيد محمود شكرى الألوسى: تاريخ مساجد بغداد وآثارها، تحقيق عبد الله الجبورى .

– حسين أمين: بغداد تاريخ وحضارة، منشورات المجمع العلمى، 2006.

– خالد محمد مصطفى عزب: التراث الحضارى والمعمارى للمدن الإسلامية، دار الكتب العلمية – القاهرة، 2011 .

– شهاب الدين ابى عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموى الرومى البغدادى: معجم البلدان، دار صابر – بيروت، ج1 .

– طه الراوى: بغداد مينة السلام، مؤسسة هنداوى للتعلم والثقافة – القاهرة .

– عبد الحكيم العفيفى: موسوعة 1000 مدينة إسلامية، مكتبة الدار العربية للكتاب، ط1، 2000 .

.تابعونا على موقع #نسر_العروبة
https://nesral3roba.com/
 .للمزيد من أسعار الدولار والذهب والعملات والأخبار الترند تابعونا على قناة التليجرام https://t.me/ghsjksjjs
تابعونا على صفحة الرسمية لـ #جريدة_نسر_العروبة
https://www.facebook.com/nesral3roba.1
تابعونا على تويتر #جريدة_نسر_العروبة
تابعونا على أنستجرام #جريدة_نسر_العروبة
https://www.instagram.com/nesral3roba/
تابعونا على صفحة الرسمية لـ #جريدة_نسر_العروبة
https://www.facebook.com/nesral3roba.1