بقلم : أ . د . بومدين جلالي – الجزائر
لقد بلغْتُ مِنَ الكِبَر عُتِيا، ومنَ الاغْتراب الحدّ الأقْصى والأقْسى، ومنَ الحنين ما لا طاقةَ لي به …
يُؤرِّقني التّذكُّرُ المُتزايدُ، يُؤلمُني الوجعُ الفظيع الذي مسَّ الشعور واللاشعور كما مسّ الروح والجسد معاً، يَجْتاحُني طوفانُ المشاهد النابضة بالحياة البسيطة المتحركة التي كنْتُ جزْءً منها ذات زمَنٍ بعيدٍ بعيدٍ جدّاً وكانتْ وما تزال وستبقى جزْءً منِّي إلى أنْ أختَفِيَ كما ظهرْتُ من غيْر أنْ أستأذِنَ أوْ أستأذَن منْ أحَدٍ حين الشروق ولا حين الغروب …
تأخذُني نوْباتُ الحَنينِ والأنينُ رفيقي إلى دوائر ومستطيلات ومربّعات ومثلّثات وغيرها من الأشكال الهندسية واللاهندسية والفضاءات المفتوحة على ثنائيات الحضور/الغياب والضياء/الظلام والمادي/اللامادي والفرح/الحزْن والقوة/الضعف والحياة/الموت وما قبل كل هذا/وما بعد كل هذا وأنا أسائل البشر والحجر والشجر والمطر وما داعبَتْه أشعّةُ الشمس والقمر عنْ أساطيرَ كانتْ حقائقَ وليْلياتٍ كانتْ يومياتٍ وأناسٍ مَرُّوا من هنا وهناك وهنالك ولم يعودوا أبداً وعن حكاياتٍ هضمتْها حكاياتٌ ورواياتٍ سردتْها رواياتٌ وبسَماتٍ تحجّرتْ وتفكّكتْ وتفتّتْ وتبخّرتْ بعدما غدَرتْ بها في لحظة سهْوٍ بسماتٌ ليس فيها شيءٌ من البسمات …
كنتُ بخير وكانت الدنيا بخير عندما كانت القصائد المائية تتجوّل راقصة في المطَريات والثلجيات وزخّات الزخات والبخار المتصاعد كجميل الآهات على نغمات خرير السواقي وهدير الأنهار ومعزوفات المحيطات والبحار. كانت الشمس حينها تشرق مرة باردة هادئة ومرة حارقة شاردة لكنها تظل باسمة ساحرة في الحالتين وتُصغي لكل الذين يلتفتون إليها في الحالتين وتودِّع في المساء مَن ينامون بنومها في الحالتين لكن اليوم حدث شيءٌ أو أشياء مَا في عوالمي فتغير الزمان والمكان والإنسان والوجدان وما ظل يُحكَى في الكان كان وما بات يُرْوَى في إخباريات الرُّكبان ثمّ تاهَتِ القصائدُ وماؤها وشمسُها ولم تبق إلا نسخٌ بالية جدا منها لا صفة فيها من أوصاف الأصول ولا لون منها يتماشى مع بقايا الحدائق والحقول …
كنتُ بخير وكانت الدنيا بخير قبل أن تتقهر تغاريد العصافير أمام زمني الضجيجي المبرمج للانفجار تلو الانفجار تلو الانفجار وما أحدثه من شذوذ ضد الفطرة الطبيعية وتلوث ضد الصفاء الطبيعي وتدمير للقيم البشرية الطبيعية وصناعة للموت المؤدلج الخارج عن معنى الموت الطبيعي، واليوم ها هو كل الطبيعي انقرض أو يكاد بفعل فاعل غير مسؤول ومكر ماكر غير مقبول وحقد حاقد على الشرور مجبول وموقف باهت غير مقبول …
كنت بخير وكانت الدنيا بخير عندما كان الشرق شرقا والغرب غربا والناس بينهما يتجولون من أقاصي الشمال إلى أقاصي الجنوب وهم يتحاورون ويتشاورون ويبيعون ويشترون ويتخاصمون ويتصالحون ويتعايشون في كنف أنا أنا وأنت أنت وهو هو والسماء الزرقاء للجميع والألوان الأرضية كلها متوفرة للعيون ومباحة للعيون وملهمة للعيون لكن اليوم ما عادت الألوان ألوانا ولا السماء سماء ولا الضمائر ضمائر باستثناء ” أنا ” مُضخّم مُعوْلم مشوِّه لذاته وغيره بغرور تجاوز كل الغرور وهمجية تجاوزت كل الهمجيات وطغيان ما فوقه ولا بعده طغيان …
كنت بخير وكانت الدنيا بخير عندما كان للكلمة معناها وللصراخ معناه وللمقاومة معناها وللغد معناه لكن يبدو أن الدّال فقدَ دلالته تدريجيا والتلاشي متواصل بسرعة مرعبة … وإذا لم يحدث أمر كبير جدا في القريب العاجل سينتهي كل شيء بعد حين.
أنا أختنق، أختنق، أختنق … ربما قمري قدِ انْشقّ دونما أن أدرك ذلك، والرحيل قد بات قاب قوسين أو أدنى … وأملي الوحيد الباقي هو أن لا يحدث لأجيالنا الجديدة ما حدث لنا من ويلات ونكبات وانهيارات كنا من المساهمين في إنتاجها من غير درايتنا غالبا وبدرايتنا نادرا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الثلاثاء 02 جوان 2020