إمضاء الأستاذ الدكتور / بومدين جلالي
خرجْتُ ذاتَ يوْمٍ بعيدٍ بعيدٍ جدّا والحياةُ ربيعٌ، وبعْدَ غيابٍ طويلٍ طويلٍ جدّا عدْتُ والحياةُ خريفٌ، فما وَجدْتُ غيْرَ أطْلال نفْسي وتَداعِيات خَيالاتِ ذِكْرَياتٍ تُطِلُّ علَيَّ منْ هنا وهناك دونَ أنْ أراها ولا تراني … رحلَتْ وُجوهُ زماني كأنها لمْ تكُنْ مَوْجودةً في لحْظةٍ منْ لحظات التّاريخ، وانْمَحَتْ ذاكرةُ مكاني كأنها لمْ تقِفْ يوْماً ما في هذا الحَيِّزِ المنْقوش في جُغرافية شُعوري ولا شُعوري مُنْذُ أنْ ترعْرعْتُ صبِيّاً ثمّ يافِعاً والحياةُ في ذاتي ومِنْ حَوْلي حياةٌ … كانتِ الشمْسُ تُشرِقُ دافئةً باسمةً في اسْتِحْياءٍ وأنا أغادِرُ بابَ بيْتي مُسْتنْشِقاً هواءَ الصّباحِ ومِحْفظتي الجلدِية القديمة ُتدْعوني بإلْحاحٍ إلى الْالتِحاق بأصَيْحابي وهُمْ في الطريق إلى مدرستي التي أصْبحتْ لا تخْتلِفُ عنْ بيْتي وعواطِفي تتَلذَّذُ بها دونَ أنْ تَدْرِيَ أبداً ما سِرُّ ذلك التلذّذ ! … وها هِي شمْسُ اليوْم لا تُحيلُ إلّا على احْتِراقي المُتواصلِ منْ غيْرِ أنْ يتَجلّى لهُ لهيبٌ أوْ دخانٌ أو حَرٌّ خانقٌ يَشعُرُ بهِ أحَدٌ سِوايَ منَ المُقْبِلين المُدْبِرين الذين لا أعرفُ منْهم شيْئاً ما وأظنُّهم لا يعرفون منِّي شيئا ما ولا حتّى يَرَوْنَ مُروري أو يُلفِتُ انْتِباهَ أحدِهم أو إحْداهُن طيْفي التائهُ في هذا الخَرابِ الذي لا يُضاهيهِ خرابُ … أذْكُرُ أنّ الشوارعَ الطويلة والأزِقّة المستقيمة والممرّات الضيّقة والساحاتِ الفارهةَ كانتْ نقيّةً شيّقة أنيقة فيها جاذبيةٌ مَغْناطيسية منْ غيْر مغْناطيس، لا تملّ منْها العيْن ولا يُصدَم منها الأنفُ ولا تُجْرَحُ بها المشاعرُ فكأنّها فضاءٌ بِكْرٌ لمْ ينْزلْ فيه تلوُّثٌ ولمْ تمرّ به مُزْعِجةٌ منْ مُزعجاتِ الليالي ولمْ يَمْسسْهُ بَعْدُ إنْسٌ يُسْتَأنَسُ ولا جانٌّ لا يُستأنس … إيه كيْفَ كانتِ البِناياتُ الطُّوبِيةُ والبنايات الحجَرية والقرْمُودُ نِصْف الدّائري والمَداخِنُ الجالسةُ في الأعالى بهدوءٍ تبْدو كأنها تشْكيلٌ فَنِّيٌّ طبيعيٌّ فريدٌ وُجِدَ هُنا منذ أنْ وُجِد الترابُ والحجَر المُتناسِقَان ووُجِدتِ الأشجارُ والمياه والمرْتفعات والمنْخفضات المُزخرِفةُ لبهْجة التناسُقِ بالتّعانُقِ التّواصُلي حيناً والتّباعُدِ التفاصُلي حيناً مع ألوانٍ تتغيّرُ قليلاً أوْ كثيراً بتغيُّراتِ الفُصول لكنّها في كلِّ الأحوال تَظْهرُ آيةً للجمالِ ووَسْماً للكمال … وها هُو ذاك البهاءُ يَخْتفي نِهائياً ويَحلّ مَحلّه الإسْمنتُ والحديدُ والضجيجُ وغبارُ الحركة الفاقدةِ للانْسجامِ مع التُّرْبةِ وأفُقِها ورمْزياتِها وأخْبارِها المُخَزّنَة في ذاكرة الذين كانوا هُنا وما صاروا هنا … وأذْكُرُ أنّ أناسَ هذا المكانِ – الذي تغيّر فيه كلُّ شيءٍ حتّى عادَ كأنّه ليْس هُو – ما كانوا بالهيْئاتِ والصِّفات والأشْكال والألوانِ التي أراها تَتقاطَعُ حَوْلي منْ غيْر رُوحٍ ولا انتماءٍ ولا إحْساسٍ ولا شُعورٍ بالوُجود وما هُو مَوْجود … قبْلَ أنْ أغادِرَ؛ كان الناسُ مِنّي وأنا منْهم، وكانتْ بَسماتُهم تصِل إلى قلبي وهَمساتُهم تصلُ إلى رُوحي ووُجودُهم يَمْلأ بَصري وبَصيرتي والدِّفْءُ يُعَطِّرُ أجْواءَنا والحميميةُ ترْبِطنا إلى بعْضِنا ربْطاً لا انفصالَ فيه ولا انفصامَ ولا ضَرَرَ ولا ضِرارَ ولا أدْنى باعثٍ للشكِّ أوِ الخَوْفِ أو القلقِ أو التردُّدِ … نضْحكُ دونَ خلفياتٍ ونبْكي دون خلفيات ونتحدّثُ دون خلفيات ونسْكتُ دون خلفياتٍ ونسْعَدُ بما يُسْعِدُنا دون خلفيات ونَحْزَنُ على ما يُحْزِننا دون خلفيات … نَنْطلِقُ منَ البساطةِ والعفْويةِ والمحبّةِ، ونَمُرُّ بالبساطة والعفوية والمحبة، ونُنْهِي أمورَنا في البساطةِ والعفوية والمحبة … ياه كَيْف كانتِ الحياةُ جميلةً جميلةً جميلة وكيف أصبحتْ شيئاً آخرَ لا أعْرِفُ كيف أصِفُهُ ولا كيف أسَمِّيهِ لأنّهُ ليْس مُعاكِساً للجمال ولا موازياً له ولا متقاطعاً معه ولا مُلتَفّاً حوْله ولا بعيداً عنه البُعْد كلّه وإنّما هو شيءٌ غيْرُ معهودٍ ولا معْدودٍ ولا موجودٍ في دَوائِر المَعارِفِ وأمّهات القواميس بَعْد … وأذْكُرُ أنّ الأسْرَةَ كان لها معنىً آخَر والقرابةَ كان لها معْنى آخر والجُورةَ كان لها معْنىً آخر والصداقةَ كان لها معنى آخر والزَّمالَةَ كان لها معنى آخر وعلاقاتِ الحياةِ كلّها كان لها معْنى آخر … حتّى العِشْق كان له معْنى آخر والسُّلوك كان له معنى آخر والعَمل كان له معنى آخر والمَوْت كان له معنى آخر … اِخْتَفى الذين أعْرِفُهم وأحبّهم وأجِدُ نفْسي فيهم كما يَجِدون أنُفُسَهم في ما ورَثْتُه منْ أبي ورضَعْتُه منْ أمِّي وتلقَّيْتُه عن الذين تعَلّمْتُ منهم مَفاهيمَ الحياةِ ودلالاتِها الكبيرةَ والصغيرةَ، من أكثرِها بساطةً إلى أشدِّها تعْقيداً … اِخْتفَوْا أو غابوا أو ذهبوا أو ماتوا أو ذابوا أو لست أدري ماذا (؟!)، وها أنا ذا غريبٌ في أرضٍ غريبةٍ وما كانتْ قَطُّ غريبةً، بلْ كانتْ حبيبةً حبيبةً لبيبةً لبيبةً عجيبةً عجيبة … ما الذي حدَث ؟! ما الذي صار ؟! ما الذي وقَع ؟ أسئلةٌ سكَنَتْني، وهي تُرهِقني وتُحْرِجُني باستمرار، وما وجدْتُ لها أجوبةً مُقنعةً تُريحُني قليلاً، وما استطعْتُ أنْ أفرّ منها إلى مكانٍ خارج المكانِ … صدَقَ المَعَرِّي – واللهِ – حينَ قال : – وهَلْ يَأبقُ الْإنْسانُ مِن مُلْكِ ربِّه // فيَخْرج مِنْ أرْضٍ لهُ وسَماء ؟!