بعد وفاة سيدنا (داوود)، أمسك مكانه الحكم سيدنا (سليمان)، (وورث سليمان داوود) سورة النمل.. ورث المُلك والنبوة، لأن مال الأنبياء لا يورث، بل يذهب لبيت المسلمين.. تولى (سليمان) حكم بني إسرائيل فنظمها ووحد الأسباط.
سيدنا (سليمان) كان يعشق الخيل، وبالأخص نوع يسمى (الصافن)، يعد من أجمل أنواع الخيل.. وفي يوم كان يشاهدهم ويتأكد من تجهيزهم للحرب، نسي ورده اليومي، (إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد ¤ فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب) سورة ص.. ويُقال أنه نسي صلاته، ندم جدًا وأمر جنوده بإحضار الخيل وعرضه عليه، (ردوها علي) سورة ص.. (فطفق مسحًا بالسوق والأعناق) سورة ص.. وتلك السورة لها تفسيران الاثنان قويان..
الأول: أنه ذبحهم ليتخلص من الشيء الذي يحبه وألهاه عن ذكر ربه، لم يذبحها ظلمًا وإنما قربانًا لله.
الثاني: أنه مسح على رؤوسهم وأطلقهم أحرارًا في سبيل الله ليتخلص منهم.
ابتلى الله سيدنا (سليمان) ابتلاءً عظيمًا، فكان مرض أقعده في عرشه دون حراك، (ولقد فتنا سليمان) سورة ص.. (وألقينا على كرسيه جسدًا) سورة ص.. احتار أطباء الإنس والجن ولم يستطيعوا علاجه، وكانت الطيور تحضر له الأعشاب دون فائدة.. ولكنه ظل يدعو الله فترة كبيرة حتى رفع عنه البلاء.
عندما أعاد سيدنا (سليمان) بناء بيت المقدس، دعا الله ثلاث دعوات:
– أن يكون لديه حكمة كمثل حكمة الله التي يحكم بها، فاستجاب له ومن هنا اشتهرت حكمة (سليمان) العظيمة.
– طلب مُلكًا لم يحظ به أحد من قبله، فاستجاب الله له ومن هنا تميز بمعجزات ليس لها حصر.
– والأخيرة أن أي أحد يخرج من بيته ولا يكون في نيته سوى الصلاة في بيت المقدس، يغفر الله له خطاياه كأنه مولود جديد.
بنى سيدنا (سليمان) هيكلًا عظيمًا سمي بهيكل (سليمان)، وحتى الآن تبحث عنه اليهود معتقدين بأنه أسفل المسجد الأقصى.
أما بخصوص حكمته فهناك قصص كثيرة تدل على ذلك:
– من الأحاديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال “بينما امرأتان معهما ابناهما إذ عدا الذئب فأخذ ابن إحداهما، فتنازعتا في الآخر، فقالت الكبرى: إنما ذهب بابنك.. وقالت الصغرى: بل إنما ذهب بابنك.. فتحاكمتا إلى (داوود) فحكم به للكبرى.. فخرجتا على (سليمان) فقال: ائتوني بالسكين أشقه نصفين لكل واحدة منكما نصفه.. فقالت الصغرى وهي أم الصبي خوفًا على ابنها: لا تفعل يرحمك الله.. فقال (سليمان) عليه السلام: هو ابنها فقضى به لها”
– من القرآن الكريم: أنه كان هناك رجلًا يملك غنمًا لتربيتها، وآخر يملك أرضًا لزراعتها.. أكلت الغنم الزرع.. فذهب الرجلان لسيدنا (داوود) يحكم بينهما، (وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين) سورة الأنبياء.. حكم سيدنا (داوود) أن من أُكل زرعه، يأخذ الغنم من الآخر كتعويض.. سيدنا (سليمان) اقترح حكمًا آخرًا، أن صاحب الغنم يزرع الأرض حتى تنبت من جديد، وصاحب الزرع يأخذ الغنم في ذلك الوقت ينتفع بها حتى ينتهي الآخر من زراعة أرضه.
وذلك ليس معناه أن سيدنا (داوود) عليه السلام لا يحكم بالعدل، بل كما ذكرت سابقًا أنه كان عادلًا وصادقًا وحكيمًا في حكمه، وأحبه الله والرسول والكثير من البشر.. وإنما كانت اقتراحات من سيدنا (سليمان) لإثبات حكمته وكانت صحيحة.
كان سيدنا (سليمان) يدعو ربه أن يهبه ملكًا لا يملكه أحد بعده، (رب اغفر لي وهب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي) سورة ص.. فسخر الله له الجن، يأمرهم فيبنوا القصور الضخمة، (وقدور راسيات).. ويغوصوا في البحر يستخرجون له اللؤلؤ والياقوت والمرجان، (ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملًا غير ذلك).. ثم سخر له الرياح، (ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها).. وكان يستخدمها في الحرب كعاصفة قاتلة، ويستخدمها أحيانًا للترفه فيركبها ويحلق بها.. وكان يمتلك بساطًا خشبيًا ضخمًا يقف عليه هو وجيشه ويأمر الرياح أن توصله إلى المكان الذي يريده، فكانت عوضًا له عن الخيل الذي ابتعد عنه.. وأنعم الله عليه بذوبان النحاس كما ألان الحديد لأبيه، فكان يستفيد منه في صنع أشياء كثيرة.. وجيشه كان عظيمًا مكونًا من بشر وجن وحيوانات وطيور وكان يعرف لغتهم ويتحدث معهم.
من ضمن القصص التي ذُكرت في القرآن: (وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون) سورة النمل.. وحشر تدل على الكثرة.. مر من وادٍ مليءٍ بالنمل، سماه الله بوادِ النمل.. فسمع نملة تحذر قومها من (سليمان) وجنوده حتى لا يدهسوهم وهم لا يشعرون، عندما سمعها حن قلبه وابتسم وتوقف على الفور حتى لا يؤذيها.. يقول العلماء أن تلك النملة قمة في العقل والفصاحة قالت:
– يا-> نادت.
– أيها النمل-> نبهت.
– ادخلوا-> أمرت.
– لا يحطمنكم-> نهت وعللت.
– سليمان-> حددت.
– وجنوده-> عممت.
– وهم لا يشعرون-> اعتذرت وبررت.
سيدنا (سليمان) كان حاكمًا وعادلًا ومنضبطًا، في يوم من الأيام أمر جيشه بالتحضر والاستعداد، وعندما خرج لم يجد الهدهد، سأل عنه فلم يكن يعرف أحدٌ مكانه فغضب جدًا، وقال بأنه سيعاقبه أو يقتله إن كان متغيبًا دون عذر.. وبعدها دخل عليه الهدهد، فسأله:
– أين كنت؟
فقال:
– كنت في سبأ [اليمن]، يعبدون هناك الشمس، وحاكمهم امرأة مكرمة عند قومها ولها عرش كبير.
سيدنا (سليمان) قبل أن يصدر حكمه بعث رسالة صغيرة لها مكتوب فيها [بسم الله الرحمن الرحيم، أنا سليمان نبي الله، لا تتكبروا على الهدى بعد ما جاء لكم واحضروا مسلمين].. أخذ الهدهد الرسالة وأنزلها على (بلقيس) ملكة سبأ في القصر.. كانت امرأة ديموقراطية لا تأخذ حكمًا إلا بعد أن تستشير قومها.. جمعتهم وسألتهم فحرضوها على القتال وقالوا بكل غرور:
– نحن أقوياء ونستطيع هزيمته، خذي القرار ونحن معك.
(بلقيس) كانت حكيمة فقالت:
– ولكنه ملك، والملوك إن دخلوا قرية خربوها دون أن يتركوا بها عزيزًا.
فقررت أن ترسل له هدايا عظيمة فإن كان ملكًا طامعًا في الأموال فسيقبلها ويبتعد عنها، وإن كان نبيًا فسيرفضها.
علم سيدنا (سليمان) على الفور أنها سترسل له ناسًا بالهدايا ليقدروا مدى قوته، فأمر بحشد الجيش.. وعندما دلف رسل (بلقيس) على جيش (سليمان) صدموا من المنظر المهيب حتى أنهم أحسوا بقلة قيمة هداياهم مقابل المُلك الذي رأوه، فالجيش به طيور وأسود ونمور ومن جميع الحيوانات، فعلموا أنهم لن يستطيعوا مساسه بسوء، توقفوا أمام عرشه يقدمون هداياهم مطأطئي رؤوسهم قائلين بأنهم رافضي الركوع ورافضي القتال.. فحرك سيدنا (سليمان) وجهه الناحية الأخرى قائلًا: (أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون) سورة النمل.. وهددهم بأنه سيهاجمهم بجيش أوله سيكون في اليمن وآخره لم يخرج من فلسطين بعد، فقررت (بلقيس) الذهاب له بنفسها.. في عرفهم العرش هو أساس الحكم، إن سقط العرش سقط الحكم، وكان عرش (بلقيس) آية في الجمال، مليئًا بالمجوهرات والألماس.
سيدنا (سليمان) عندما علم بقدومها بعث أحدًا يحضر عرشها، فتكون بالنسبة لها معجزة تجعلها تعبد الله طواعية ولا تعبده خوفًا أو مجبرة، فسأل جيشه:
– من منكم يستطيع أن يحضر عرش الملكة بلقيس.
فقام عفريت من الجن قائلًا:
– أستطيع أن أحضره بعد أن تقوم من مجلسك [وكان يجلس في المجلس من الفجر للظهر، فكانت المسألة بضع ساعات].
فقام شخص عالم، علمه الله اسمه الأعظم الذي إذا دُعي به استجاب وإذا سُئل به أعطى.. قائلًا:
– أستطيع أن أحضره لك قبل أن يرتد إليك طرفك.
أما عن حقيقة ذلك الشخص، فلم يُذكر اسمه في القرآن، (الذي عنده علم من الكتاب) سورة النمل.. هناك من قال بأنه وزير من بني إسرائيل، وهناك من قال أنه (آصف) ابن (برخباء) وأنه صديق من بني إسرائيل، وهناك من قال أنه (جبريل)، وهناك من قال أنه سيدنا (سليمان) نفسه.. والله أعلى وأعلم بذلك.
وبالفعل بضع ثوان وكان العرش أمام سيدنا (سليمان).. فشكر ربه على الفور.. عدل سيدنا (سليمان) في شكل العرش حتى يختبر (بلقيس) إن كانت ستعرفه أم لا، فبدل في ترتيب المجوهرات والألماس.. وبعدها أمر ببناء قصر يستقبلها فيه، اختار مكانًا في البحر وأمر ببناء القصر فوقه، وأمر أن تُصنع الأرضية من الزجاج الصلب الشفاف حتى يبصر من يسير عليه السمك وهو يعوم أسفل قدميه، ومن شدة نقاء الزجاج الذي صُنعت به الأرضية، فمن سار عليه شعر بأن ليس هناك أرضية، وأنه يسير في المياه.
لما وصلت (بلقيس) بدأ سيدنا (سليمان) بالاختبار الأول معها، فأحضرها لترى عرشها، فبدأت تتأمله وتتساءل إن كان عرشها أم لا، وإن كان هو كيف وصل إلى هنا؟ وإن كان عرشًا آخرًا فكيف تم تقليده بتلك الاحترافية، فسألها (سليمان):
– أهكذا عرشك؟
قالت:
– كأنه هو!
فقال:
– (وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين)..
بعد أن ذُهلت الملكة (بلقيس)، أخذها لقصر الضيافة، اعتقدت بألا هناك أرضية، فكشفت عن ساقيها حتى لا تصاب بالبلل، (وكشفت عن ساقيها) سورة النمل.. فأخبرها (سليمان) ألا هناك ماء وإنما تلك أرضية مصنوعة من زجاج ناعم، (إنه صرح ممرد من قوارير) سورة النمل.. هنا أعلنت (بلقيس) إسلامها على الفور، (قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين) سورة النمل.. وتبعها قومها وأسلموا ورائها.
بعد حياة مليئة بالمعجزات كحياة سيدنا (سليمان)، فكان من الواجب أن يكون موته بنفس القيمة والعظمة..
الذي حدث أنه كان واقفًا يراقب الجن وهم يعملون، حان موعد موته، فقُبضت روحه، ولكن الله ترك جسده صامدًا صلبًا واقفًا على نفس الوضعية، متكئًا على عصاه.. فاستمر الجن في البناء وكلما شعر أحدهم بالإنهاك نظر إلى سيدنا (سليمان) فيجده واقفًا ليعود مرة أخرى إلى البناء على الفور، ظلوا على هذا الحال فترة طويلة حتى أتت نملة تتغذى على الخشب، ظلت تأكل من عصا سيدنا (سليمان) أيامًا حتى تآكلت العصا من الأسفل واختل جسد سيدنا (سليمان) وسقط أرضًا.. هنا علمت الجن وباقي المخلوقات أنه قد مات منذ زمن، وذلك أكبر دليل أن الجن لا يعلمون الغيب، وليس هناك مخلوق يعلم الغيب إلا الله، (فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) سورة سبأ.
–
وآخرًا كلها اجتهادات من العلماء في تفسير كتاب الله، والله أعلى وأعلم بصحتها.
–