بقلم : د.ظريف حسين
أستاذ و رئيس قسم الفلسفة بجامعة الزقازيق
بدأت أزمة الشرعية قبل ظهور الإنسان علي الأرض حينما كان وجوده مجرد فكرة ، فقد أنكر إبليس علي الله أن يأمره بالسجود للإنسان،لأنه فيما – يعتقد – أفضل منه عرقيا،كما تعجب الملائكة أنفسهم من فكرة خلافة الإنسان لله علي الأرض،و كان هذا الرفض منهم لأسباب وظيفية، أي لأن الملائكة أكثر قدرة علي التعبد لله من هذا الأثيم اللئيم الذي سيملأ الأرض فسادا و اغتيالا.
وهكذا اتفق الشيطان و الملائكة معا علي عدم شرعية وجود الإنسان و رفضه لأسباب مختلفة تتعلق بعدم ضرورة وجوده وظيفيا،من جهة و انحطاطه عرقيا،من جهة أخري..و من هنا ظهرت أول أزمة للشرعية، و مازالت و سوف تظل دائما حتي نهاية العالم.
و مع ذلك فقد جعل الله قدرته هو نفسه علي تنفيذ أوامره أساسا لشرعيته بوصفه إلها، قبل أن تكون أساسا لشرعية وجود الإنسان.و بذلك تكون أزمة الشرعية تجسيدا لحالة الصراع بين الحق و الباطل.
و لم يكن إبليس علي باطل لشعوره بالتفوق من ناحية الأصل،و لكن لعدم انصياعه للأمر الإلهي، فالأفضلية عند الله هي في طاعته و في الإقرار بقيوميته و حكمته،كما لم يفهم الملائكة الحكمة من خلق الإنسان حق الفهم عندما اعتقدوا أن طريقة عبادتهم لله هي الأفضل و الأرقي و الأخلص،و أنه لا حاجة لإيجاد هذا المخلوق البائس،الذي هو الإنسان!
و بذلك فإن وجود الإنسان نفسه مشكوك في شرعيته.و بصفة عامة يمكن القول إن أي فعل إنساني أو حتي فيزيائي يبحث لنفسه عن شرعية حتي يخرج إلي الوجود. و لكن ما الشرعية؟
إن الشرعية هي الأساس الذي تقوم عليه الأفعال و الأشياء بحيث يكون مقبولا ممن يهمهم هذا الفعل أو ذلك الشيء إلا أن يكون شيئا طبيعا فشرعية الشيء أو الفعل إذن هي سنده، أي قانون وجوده و سلوكه. و النتيجة هي أنه لا وجود لحق مطلق و لا لباطل مطلق؛و بالتالي لا وجود لشرعية مطلقة؛فالشرعية هي ما يقبله الرأي العام أو العقل الجمعي أو العقل العلمي الذي تتساوي أمامه كل الأشياء من حيث هي أدوات لتحقيق المصالح.
فالمصلحة العامة – باختصار – هي أساس الشرعية،وهي ما يتفق عليه معظم الناس،و يتطابق مع الديمقراطية التي تسوي بينهم في الحقوق و الواجبات،و توفر لهم أكبر قدر من الحرية المسئولة.
و من هنا لا يمكن التماس الشرعية من الدين أو من العرق أو من أي مصدر آخر إلا ما يقوله العلم الوضعي و القوانين الوضعية التي تجسد معني القيم المشتركة بين أفراد الشعب.
و لنتذكر الآن ما قلته في بداية هذا العرض من أنه لو كانت شرعية وجود الإنسان مستمدة من الدين فقط لما كان الله قد أوجده من حيث المبدأ؛ لتفوق الملائكة عليه في هذا الجانب! و عليه فلا يجب الاستناد إلي الشرعية الدينية و علي العمل الديني للاستيلاء علي السلطة و الاحتفاظ بها.
كما يجب أن ندرك أيضا أن العلم النزيه عن الغرض أكذوبة تستوطن عقول البسطاء؛ فالعلم نفسه،و كل علم، يهدف إلي تحقيق مصالح و أغراض معينة يرسمها له أصحاب النظريات و المخترعات أو الاكتشافات المؤسسة عليها،و بالمثل تماما يتم توظيف المذاهب الدينية و الفقهية من ذوي الشأن لأغراض دنيوية…
و إذا صح ما قلتُه حتي الآن فإن ما زعمه و يزعمه أصحاب الاتجاهات الدينية علي اختلاف أشكالهم و أسس فقهم، من أنهم وحدهم- من دون غيرهم – من أصحاب الثقافات الأخري يملكون الشرعية؛فالواقع هو أن ما يزعمونه في هذا الشأن لا أساس له، و وهم كاذب،و الدليل الواقعي التاريخي هو ثورة الشعب عليهم و فشلهم في كل مرة.