بقلم الكاتبة الجزائرية فاطمة حفيظ
و في تلك اللحظة، ضاعت كل اللحظات التي حقنت تحت الجلد ، و لم يبقى لها أثر سوى نزيف بالذاكرة. كم حملت بين عيني تلك اللحظة الجميلة و امتطيتها بين غابات البشر المتشابهة و غيومهم الممطرة بالسهام.
كانت هذه اللحظة قد تقاوم المرور و تتشبث أكثر بحواسي، فهي تأبى المرور إلى الذاكرة ، لحظة على قيد الخلود ، و لا يمكن لشيء أن يجعلها من الماضي رغم تراكم الأيام،…
لم يكن شخصا عاديا أبدا، كانت عيناه وامضتان و كنت كل واحدة منهما تشبه مسدسا رغم ما يزرعه من خوف، يزرع الفخامة أيضا، لا تكف المرأة العربية عن حب رجل يثير خوفها، فهي تواجهه بكل قوة، لكنها تصاب بالخيبة من رجل تغتاله البلادة و الغباء في تفاصيل النساء، من التسرع الولوع بهذا الصنف الذي ينتمي إليه هذا الرجل، الذي لا يتكلف بصنع أي شيء لمقابلة سيدة تتعب على تجهيز نفسها كثيرا، و لم يكن هذا بالنسبة لي سوى جانب قوة آخر يكنه هذا الرجل كي يقابل كل شيء و يساويه بطريقة ما.
كان يقرأ وثيقة ما قد علقت على الجدار ، و تنظر ساعته إلى وجهه من حين إلى آخر ، كنت قد رأيته لأول مرة عن قرب ، و كان من الصعب تجميد تلك اللحظة التي غيرت لوني، رائحتي، و حركة قلبي بين ضلوعي ، ..كانت أعراض هذا الحب المزمن واضحة جدا، رغم مقابلتي لعدد كبير من الرجال، لم يسبب أحد مثل هذه الانفعالات مسبقا..
بين أسفل الدرج و مدخل البناية، كنت أحاول فقط أقترب منه ليس لمحاولة رؤيته ، بل لمحاولة حواسي التقاط شيء حول هذا الرجل الهادئ هدوء أعماق ” الباسيفيك” في أوائل تموز ، في حين كنت أيضا أزعم نفس الهدوء، الهدوء الذي يسابق شمسا تتوهج من الداخل ، و هي ثابتة بمكانها ،و أرسل ابتسامة ارتجالية لتهدئة رعشة قلب..
في تلك اللحظة ارتشفنا عددا قليلا من الكلمات ، في حين كنت افقد توازني كسنبلة مثقلة بكل محتواها، ذهب مغادرا المكان ، و ترك لحظة حية تتكرر ..
…توقف، مهلا، لقد أماط حبك اللثام عن قلبي، و الآن، تختار لحظة الذهاب، …أنت مقتدر و صانع لأغلال تقودني إلى الجنة تارة ، و إلى الجحيم تارة أخرى ، مهلا ، لقد تركت زغابة جناحك الأبيض، كملاك يفتش في ربوع النساء عن خطيئة ما، ..كشيوعي ، لا وطنية له في النساء،..كمؤمن يعيش عنوة رغم كل الصراعات التي يفرضها عليه إيمانه، ..لكن ربما، كان يشبه جنيا أيضا، لقد كان وسيما جدا و فاتنا، لقد تسبب في جعل الكحل الذي يحيط بعيني ، مجرد كتل رماد متساقطة ، فلم تكن ناره بردا و لا سلاما ، لن يمر هذا الرجل أبدا، ..أعرف ذلك، لقد قام بنحت صورته على حدقتي المتسعتان اثر فاجعة الحب..
..اذهب ، أنت أصم لا تسمع شيئا، و لا يمكن أن تنصت قليلا ..، ثم أدرت وجهي باتجاه كبريائي، لكنني رأيته مجددا، ..و هذه المرة، تكررت تلك اللحظة على وجه النافذة الداكنة، ..
كان هذا الطاغية سيفا على عاطفتي الصلبة، لقد انسلخ من إنسانيته الآن ، و تحول إلى فكرة أكثر قوة من عقلي، لم يعد بإمكاني تلك الليلة الاستمتاع ببعض النعاس، و لا ضجيج حرفي الوثير ..
كانت الساعة تشير إلى الثالثة صباحا، حين تمكنت تلك اللحظة من القدوم إلى فراشي، بعد أن انسل منها هذا الرجل، بلا مكان، بلا زمن، بلا صوت، و لا حركة ،..كنت أشاهده جيدا، لكنني لا أستطيع لمسه و لا تحويله إلى إنسان مجددا، تماما كما رأيته أول مرة ، و لا استخدام أية حاسة سوى التركيز بذلك المشهد ، و تلك الرؤية التي حولت يقظتي إلى ملامح أحلام واقعية..
اقترب بشكل جيد، و أطلق وابلا من رصاص عينيه بشكل عشوائي ، و قتل كل جذوة كبرياء ، و في الظلام، تعرضت للسبي بلا ممانعة و لا صراخ، أتمتم تارة بسطر شعر ، و تارة أقطع خصلة شعر..، لقد تمكن مني هذا المعتوه، لقد جعلني أفارق شخصيتي دون استئذان..
و ها أنا ذا أعيش تحت راية غيابه ، و عاطفتي جاثمة تحت سماء حب بنكهة اشتياق .