بقلم: مصطفى محمد عبد الغني
هل تستحق ظاهرة أغاني المهرجانات / محمد رمضان أن نحكم عليها حكماً أخلاقياً بمعزل عن ظروفها المحيطة؟ هل تخضع تلك الظاهرة وغيرها من الظواهر للصوابية أو النقد أوالنبذ الإجتماعي دون النظر إلى مُجمل الصورة وعدم إجتزائها أو اختزالها في مجرد فكرة أننا أمام نوع من الفن الهابط الذي يتنافى مع (أخلاق المجتمع) أو يهبط بالذوق العام ؟ إن ظهور الفطر الاخضر على سطح قطعة خبز هو دليل على تعفن داخلي ظهرت أعراضه على السطح كمرحلة نهائية من الخلل. هل يجدي نفعاً إنكار أننا أمام حالة تناقض حيث نحارب منتجاً هو بالضرورة إبن شرعي لبيئته ونبتة طبيعية في تربتها الأم؟ بنظرة سحطية ومختزلة لرؤية الفيلسوف وعالم الإقتصاد الألماني كارل ماركس، حيث يرى المجتمع بأنه يتكون من (بناء تحتي) هو الإقتصاد، وكل ما هو متعلق بالحياة المادية، (وبناء فوقي) مكون من كل ما هو متعلق بالحياة الروحية من دين وفن وثقافة وأخلاق وقانون ونظريات في التربية والإعلام وطريقة تشكيل الوعي الجمعي للمجتمع والأنساق الفكرية والفلسفية السائدة. يرى ماركس أن البناء الفوقي (ما يخص حياة الروح) ينشأ منبثقاً عن البناء التحتي (المادي) ومتأثراً به، أي ببساطة يكون كل ما هو له علاقة بأفكار ومعتقدات وقناعات وإيديولوجيات الناس مرتبط بواقعهم الحياتي إن لم يكن ناشئاً بالأساس كنتيجة مباشرة لهذا الواقع. لو ألقينا نظرة سريعة – ذاتية وموضوعية – على هذا البناء الفوقي المصري (الناتج الثقافي في مصر) الذي ينشأ كنتيجة ومحصلة للبناء التحتي وإنعكاساً له وفي ظل تراجع لا يمكن إنكاره للطبقة المتوسطة، والتي تعتبر هي عامل التوازن في الهرم الإجتماعي لأي مجتمع،وذلك لأنها تمثل حلقة الوصل الآمنة بين الطبقة العاملة أو الفقيرة، وطبقة الأثرياء في المجتمع، باعتبار ما تمثله الطبقة المتوسطة من حضور للقيم المجتمعية والأخلاق العليا والعلم، وهو ما يحقق توازن آمن وصحي، وغياب هذه الطبقة أو تراجع دورها الذي جاء تزامناً مع صعود (مادي) لطبقات متدنية ثقافياً ربما بدأت مع بداية ما عٌرف بالإنفتاح الإقتصادي، وربما وقتها بدأ منحدر السقوط في التحقق وعلى مدار سنوات لاحقة، وصلت إلى ذروتها حالياً، ولسنا هنا بصدد تقييم الإنتاج الفني عموماً لنمهره بخاتم الجودة أو ننزع عنه صفة الجمال ونصفه بالفن الردئ أو الهابط، ولكننا بصدد محاولة فهم الأسباب التي أدت إلى تجذر وتسيد وتغول هذا النوع من الفن بما حققه من قاعدة جماهيرية وحضور ملحوظ ! في حالة محمد رمضان مثلاً: ربما بقليل من الموضوعية.. لا بد من الإقرار بأن صعوده المدوي جاء نتيجة طبيعية وإنعكاس متوقع لحالة (البناء التحتي) التي تكلمنا عنها، مع تدهور الحالة الإقتصادية للطبقة المتوسطة، يأتي محمد رمضان ليخاطب شريحة كبيرة من الشعب يقهرها الفقر، ويسحقها إنتظار الفرج، الذي لا يأتي غالباً, ليقدم لهم نموذج الشخص الفقير إبن الأسرة المُعدمة والذي بضربة حظ أو بضربة سنجة أو شومة أو غزة مطواة، تنفتح له الدنيا فيصبح البطل- الفارس- الشهم- القوي الذي ينتزع حقه بقوة عضلاته، مدعوماً بقاموس من كلمات ذكورية قاسية، فهو أيقونة النجاح وهو فخر الرجال، ومعبود النساء، وحُلم الفاتنات…إلخ. هنا.. تتحقق المأساة.. فهذه الصفات التي تداعب مخيلة كل الرجال لفترة مؤقتة، وتستمر مسيطرة على مخيلة بعض المراهقين من الرجال طوال حياتهم إن لم ينضجوا. وحين تحاول محاربة هذه الظاهرة فأنت تتصادم مباشرة مع جمهور رمضان/ المهرجانات، أنت ببساطة تقتل أحلام البسطاء والمُهمشين، وتقف ضد أمانيهم في الثراء السريع والسطوة المفقودة والعزة التى غيبتها مذلة الحاجة. الأخطر من ذلك: أنت تحاول أن تحطم الأيقونة، وتقتل (البطل- الأسطورة – نمبر وان) أنت تحاول اغتيال بطلهم الذي صنعوه على أعينهم وبوحيهم، وصدقني .. لن يسمحوا لك بذلك ! محمد رمضان كظاهرة جاء لتأكيد حقيقة يقرها الواقع، وهي أن حياتنا مليئة بمن هم على شاكلته ممن اقتنعوا بحقيقة (وما نيل المطالب بالتمنى ولكن تؤخذ الدنيا غلاباً) إلا أن مغالبتهم للدنيا كانت عن طريق فرد العضلات وفرض أمر واقع بقوة الضعف المُجتمعي، لا بالإجتهاد لتقديم فن جيد، بل لتقديم فن (مطلوب) ولمن لا يعلم: هناك فارق كبير بين النوعين من الفن. الفن الذي يحمل رؤية فنان مثقف ومخلص، لديه وعي بمجتمعه من جهة، ومن جهة أخرى: فناً آخر يعتمد على تلك المقولة المذمومة والخالدة (الجمهور عايز كده) والتي هي لسان حال فناني أغاني المهرجانات، هذا النوع من الغناء الذي يؤكد أن الفن يقوم على مدى ما يحققه من إنتشار، لا على ما يضيفه من قيمة أو ما يحققه من جمال، إذ لا يمكن إعتبار الإنتشار وحده هو (النجاح) هذا الإنتشار الذي يستند إليه مقدموا هذا النوع من الفن، حيث يحتج كل منهم بما حققته أغانيه من تداول أو عدد المشاهدات على يوتيوب أو عدد لمشتركين على صفحاتهم. وكل رسالة هذا النوع من الغناء هو الحديث عن رجولة مبالغ في وصفها وغدر الصحاب وخيانة المحبوب وبطولات وهمية أسلحتها هي أسلحة الشارع حين إنفلاته والتي تتنوع ما بين الأسلحة البيضاء والخرطوش إلى أسلحة السباب والشتائم بلسانِ شعبيِ مبين سليط مهين. نحن أمام حالة سقوط عامة يلزم معالجة الخلل من الأساس، لأن ما على السطح هو فقط قمة جبل الجليد، أما القاع .. فهو بالفعل قاع.