المحبة والتسامح

ed4f49f4 341d 4f45 9909 c6bc6b53ba51

أفراح رامز عطيه

الرغبة بالتسامح والتعايش والتعددية وقبول الثقافات الأخرى، تقود الشعوب المختلفة في الفكر والدين والثقافة إلى التفاهم واحترام القيم والمبادئ الإنسانية؛ في سبيل بناء الجسور بين الثقافات والحضارات المختلفة. هذا فضلاً عن أنّها تغني القيم الدينية السامية والفطرة الإنسانية السليمة، والتي هي بالأساس الشرط الضروري لنبذ التعصب والحروب ومحاربة الجهل، وصولاً إلى مجتمعات بشرية متوازنة، متحابة، تستبدل سياسة العنف والتطرف بأهداف إنسانية عظيمة، تحقّق للإنسان الرفاهية التي لا مكان لهما في بيئة ضعيفة وضائعة.

من القيم الإنسانية التي أجمعت عليها الشرائع السماوية قيم التسامح والعدل ونبذ العنف، وتعزيز السلم والسلام بين الشعوب. فقد كرّم الله سبحانه الإنسان بالتأكيد على إنسانيته دون تمييز بين بني البشر، فقال (عز وجل): “ولقد كرمنا بني آدم”. كما أجمعت الشرائع السماوية على جملة كبيرة من القيم والمبادئ الإنسانية، في مقدمتها حفظ النفس البشرية قال تعالى: “أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً”.

لذلك نجد أنّ الاختلاف في شكل أداء الشعائر والطقوس الدينية بين الديانات التوحيدية لم يحل دون الإيمان بأنّ الأخلاق الرفيعة والمشتركات الإنسانية والقيم السامية هي الأرضية الصلبة للتعايش والسلم والسلام بين الأمم، وهذا ما يعبّر عنه معالي الشيخ عبد الله بن بيّه رئيس “منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة” بلغة واضحة فصيحة في المناسبات والمؤتمرات المختلفة.

فالتسامح بحسب النظم الفلسفية العالمية هو احترام تبادلي بين الأفراد والجماعات، يعبّر عنه لفظياً وسلوكياً بغض النظر عمّا إذا كان الآخر على صواب أو خطأ. وهو متداخل في صميم الحقوق والواجبات التي تتعلّق بالأفراد، من حفظ الحياة والحريّات والحقوق كما جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام (1948)، بقصد تجنيب العالم ويلات الحروب والتشريد والسعي إلى تطوير المجتمعات بدلاً من صناعة الأزمات والحروب. وفق هذا المنظور يمكن فهم الرسالة التي حملها معالي الشيخ عبد الله بن بيّه إلى العالم أجمع حول التسامح كحاجة إنسانية ملحّة ومطلب عالمي في هذا العصر، مع التمييز الجلي بين التسامح الحقيقي، وبين الدعوات المشبوهة التي تسوقها بعض القوى التي تشكل مثالاً صارخاً على تبنّي العنف والتطرف والممارسات العنصرية.

وطالما أبرز معاليه الشيخ ابن بيّه بنظرة عالمة ومتميزة من الناحية العلمية والفلسفية والاجتماعية، المشاكل والخلل، وإمكانية إصلاح هذا الخلل باستعادة جادّة وصادقة لألق القرآن، حيث التعاون على البرّ والتقوى من أجل إطفاء الحريق وإنقاذ الغريق. وأكّد على أنّ تلك القيم العدلية تندرج في إطار التركيبة الأصيلة للبناء الإسلامي الحضاري الإنساني بالمعنى الأشمل. ومذكراً بحفاظ أئمة المسلمين وعلماء الإسلام على صفاء نصوص الوحي الرحبة وقدسيتها عبر التاريخ، فهذه النصوص كفيلة بضمان تحقيق العدل والمساواة وإطفاء حرائق القلوب والنفوس، مبيناً شروط مزاولة تلك المهنة، التي تعتمد على البحث في كيفية تصحيح الخطأ وتضميد الجراح، وترضية النفوس وصقل القلوب من الضغائن.

أمّا العنف الذي يجتاح العالم اليوم من قبل أفراد ومجموعات ودول، فهو عنف مدمّر ومنظّم يعيش على بثّ الكراهية، حيث تتعدّد أساليبه، ويؤدّي في معظمه إلى القتل، الأمر الذي يحدث الشقاق ويزيد من حدة الانفصال والانقسام، من هنا يتساءل الشيخ ابن بيّه: هل الدين سبب ظاهرة العنف، أم أنّ العنف ناشىء عن عوامل أخرى والدين وسيلة؟ فكيف نعالج تلك الدعوى؟ وكيف يكون الدين حلاً وليس مشكلة؟ في إجابته عن السؤال الذي طرحه يرى أنّه يمكن دمج الدين في بعض مظاهره المنحرفة كعنصر من عناصر ثقافة العنف. فالديانة قد تكون أحد المبررات للعنف، ولكن هذا السبب غالباً ما يكون ممزوجاً بأسباب أخرى كالإحباط والإهانة والفشل، ويقوم الدين بدور مؤطّر للنزاعات، بل أحياناً بدور مكرّس للنزاعات. من هنا يتجلى واجب القيادات الدينية في البحث في نصوصهم الدينية وتاريخهم وتراثهم ليجدوا أسساً متينة للتسامح والتعايش ونماذج مضيئة، يسهم إحياؤها في إرساء قيم الخير والسلام في نفوس معتنقي هذه الديانات. لأنّه بالرجوع إلى النصوص وإلى التأويل المناسب والمقارب يمكن أن نتصدّى لمروجي الكراهية والمتلبسين بلبوس الدين من المجرمين.

كما دعا معاليه إلى تقديم الرواية والرؤية، رواية الإسلام في دعوته للسلام والتسامح، اعتماداً على نصوص أكيدة وعلى ممارسات رشيدة، وعلى التأويل الصحيح، على عكس الرواية المحرّفة على يد الغلاة، الخارجين عن الضبط الديني والضبط العقلي، ويجب الاعتراف بأنّ جذور هذا الانحراف والمعارف المسبّبة له ليس بعضها بجديد وإنّما هو وريث فكر كان في التراث الإسلامي وتاريخه، وهو علاقة هذا الفكر بالنص، والتي تتميّز بحرفيّة في الفهم بلا تأويل ولا تعليل، وكذلك فإنّ استغلال الدين سياسياً وطائفياً قد يكون سبباً للاضطراب.

كما ركّز ابن بيّه على إظهار الدين كقوّة للسلام والمحبّة، وعامل جذب بين المختلفين، وليس عامل حروب، وإثبات أنّ ذلك ممكن فعلاً، لأنّ ديناميكية المحبّة تتغلب على الكراهية، ولأنّ المحبة والسلام والصداقة هي رسالتنا إلى البشرية وهي شعارنا.

ويرى أنّ ظاهرة التطرف والغُلو ناتجة عن قراءة مبتسرة ومجتزأة للنصوص. “وإنّ كلّ مفهوم يمكن أن ينقلب بفعل الإنسان إلى ضده”، مبيناً خطورة التعامل مع العام دون النظر في الخاص والجزئي دون الكلي، و” أنّ المنهج الذي لا ينظر في تضامن النصوص، ولا يعتمد الجمع بين الأدلة يؤدي إلى مشكلة كبيرة”، موضحاً أنّ سبب كلّ هذه الحروب اليوم هو الفهم الحرفي للنصوص والمنهجية الاجتزايية.

من جهة ثانية تظهر جهود معالي الشيخ ابن بيه والتي كان لها الأثر البارز في تصحيح مسارات خاطئة ومعالجة مسلكيات مهلكة جاوز عمرها المائة سنة ومساعيه في مجال تصحيح المفاهيم كمفهوم “الجهاد” ومفهوم” الدار” ومفهوم” الولاء و البراء” لتكون كما كانت سياجاً للسلام، وليست دعوة للحرب من خلال معالجة الذاكرة التاريخية المختزلة في الحروب بتقديم نماذج السلام في التاريخ الإسلامي.

كما دعا إلى الاهتمام بالعلاقة بين السلم العالمي والإسلام، والتي أصبحت إلى حدّ ما ملموسة ومحسوسة في أوروبا وأمريكا. “نؤمن بأنّه في سياق العالم المعولم الذي انتظمته ديناميكة واحدة، هي ديناميكية العولمة في أبعادها وتمظهراتها المختلفة، من حركة رؤوس الأموال والبضائع، وعملية التثاقف، وتيارات الهجرة الدؤوبة في عالمنا الذي تقاربت أركانه وصار كالقرية الواحدة، لم يعد بوسع أي مجتمع أن يبقى خالصاً نقيّاً ديناً أو عرقاً، وهذا التنوّع في المنطق الديني والإنساني يحتّم الوعي بوحدة المصير والمسار، وبضرورة العمل الإيجابي والتعارف والتعايش بدل التنافر والتنابذ والكراهية والتمييز”.

ولفت إلى أنّ وسائل تعزيز السلم التي تمّ تبنيها في المجتمعات المسلمة هي الوسائل نفسها التي تنشر السلام في كلّ المجتمعات الإنسانية، لأنّ منغّصات السلم وعوائقه واحدة في كلّ مكان، وهي جزء من ظاهرة الرهاب والخوف من الإسلام.

وأكّد على دور العلماء في إحلال السلم بأماكن النزاع في العالم للقيام بمسؤولياتهم في إزالة المظلوميات التاريخية، التي تفقد شعوباً حقّها في العيش الكريم والحريّة والعدالة الاقتصادية والاجتماعية، وفي مقدمتها معاناة الشعب الفلسطيني وما يتعرّض له من ظلم وتنكيل على أيدي الاحتلال، مبرزاً أنّ الإسلام ليس دين ظلم ولا يقرّ بممارسة العنف ولا يباركه ولا ينبني على الإقصاء الديني ولا يشجع التطرف ولا الغلو …

إنّ معالي الشيخ ابن بيه يدعونا اليوم إلى إنقاذ سفينة البشرية وإطفاء الحريق الذي اشتعل في البيت العالمي، ويلحَّ على ضرورة التعاون والتضامن لتتكامل الجهود، طبقاً لمستويات ووظائف الجميع، وطلب تخصيص جزء من ميزانيات الحرب لدعم برامج تعزيز السلام في العالم “إنّ مهمّة العلماء تغيير العقليات وتصحيح المفاهيم، ووظيفتهم إطفاء الحرائق في النفوس والقلوب، ماضون في سبيل السلم ويمدّون أيديهم لذوي النوايا الطيبة من الباحثين عن السلام من كلّ المذاهب والمشارب سواء داخل البيت الإسلامي أو خارجه”. ويرى أنّ الدين طاقة يمكن أن تنتج الرفاه والازدهار كما يمكن أن تجلب الخراب والدمار، فالدين سبيل للسلام لا عدوّ للبشرية.