النواب في عيون بصرية

81044240 1495901200565624 4646786376660942848 o

بقلم :- عبدالزهرة خالد /البصرة

أحيانا عندما تنوي الكتابة في موضوع ما قد لا تحتاج الى مقدمة لتسترسل في استدراج القمة فيه والنهاية كي يستمتع القارئ بالجوهر عند السفوح ، لكني هذه المرة سأجرب أن أخوض في الكتابة عن ظاهرة أدبية غير طبيعية مرّت ومازالت تمر على العراق ٠ تجاوزت أنا كل مصاعب الصحة والمقدرة في المطاولة على السير مستنداً إلى عكازي للحضور في أصبوحة نقدية وشعرية عن الشاعر العراقي مظفر النواب صباح يوم ٢١ من الشهر الجاري في اتحاد أدباء وكتاب البصرة تقديم أحد النقاد والكتاب وبمشاركة نقاد وأدباء كبار في المحافظة .


لم أكن يوماً أني أمتدح شخصاً أو شاركت كتاباتي المديح لأي شخصية وإن كانت نبيلة وكان السبب في كتابتي بشكل سرّي وذاتي عندما ذكروا لي أن أكتب عن صدام كي أمنح عضوية الاتحاد وعليه تركت الكتابة بشكل شبه تام كي لا أجبر امتداح احد. في حضرة الحداثوية والتجديد في الأدب العراق ( خاصة ) علينا جميعاً ككتاب نقف على شرفة الوقت للنظر ثم نقيّم بعد ذلك نشارك الجمهور في التصفيق والمدح للظاهرة التي طلت على الساحة الأدبية والثقافية طالما تخدم فيها العراق والوطن العربي .


قبل الولوج في الموضوع علي الاعتراف بأني لست بمستوى شاعرنا النواب كي اتمكن من كتابة عنه لكني سأخذ الأمر من جانب واحد وهو الادبي والتأريخي فلا أجيد لغة النقد مقابل هذا الجبل الشامخ بربوع العراق .


في عنفوان شبابي وبدايةاهتمامي بالمطالعة والكتابة كنت سعيداً جداً حينما أدون قصيدة لشاعر كبير بقلم الرصاص أو الحبر في دفتري ذات مائتين ورقة فمن ضمن هؤلاء هو مظفر النواب وعريان ومحمد درويش ونزار القباني . كانت لقصائد مظفر قيمة ثمينة وعريضة تحتويها الأغنية العراقية الحديثة أبان السبعينات فتسابق الملحنون والمطربون في حفظ قصائد النواب -حتى نحن الشباب- كأنها جزء من الثقافة الثورية التي نقتدي بها لأجل الثورة على قيود أبائنا وأجدادنا التي كسرت جناحات التحليق في عالم الإبداع . وهنا نذكر نوعية شعره من جوانب عديدة منها في الذوق الشعري والسياسي والعاطفي وامتزاج المفردات الجديدة الجريئة التي علمت الشعر كيفية الولوج في عالم لم يألفها كتاب العهد .


ثلة من الأخرين ممن يستطيعون السير على سكة ففي اليمين الشعر الشعبي الحديث وفي الشمال الشعر الفصيح الحديث المطعّم بأحجار المتنبي ومن عاصروه.كان لشعره الشعبي حضوراً لدى العرب ولدى الشعراء رغم صعوبة بعض المفردات الريفية من فهمها لكن طغيان الموسيقى على تفسير الكلمات جعلتها قريبة من القلوب والنفوس لدى المتلقي العربي حيث تتشابه البنى التحتية للمجتمع العربي .


لا ننسى أن المشاركين في الأصبوحة لم يبخلوا علينا بكل شاردة وواردة عن ميزات شعر شاعرنا القدير الذي كرّس المحلية بطعم لغوي عربي وقد يفعل شاعرنا ما يريد أثناء إلقاءه القصيدة أمام الحكام والأمراء والملوك دون خوف ووجل بل استخدم ألفاظ الشتيمة والسباب التي كثير ما انتقدها النقاد العرب وعليه فإن الملوك العرب يتوددون التقرب إليه على عكس ما يسمعونه منه وأجزلوا العطاء لغرض إرضاءه لكنه لم يتأثر بذلك فهو يسير على نهج الثورية التي اكتسبها في عقيدته الحزبية دون التنازل عنها في أحلك الظروف والسجون تشهد على صلابة موقفه .


الاتساع الأفقي لعراقيته المحلية في تعريب أدبه وشعره تجد فيها نفحات الشاعر المتنبي من خلال المعاني المغلقة وبنفس الوقت ثورية الشاعر محمود درويش بإدخال ألفاظ جديدة في بنية الجسد للقصيدة الكلاسيكية فجعلها من جامدة الى متحركة ومن سطحية إلى عمق فلسفتها فهي تدخل وتتحرك بين البلدان العربية والدولية الغربية والاشتراكية دون جواز سفر ، فهو مرفوض باطنياً من كل الملوك والعرب لكنه أصبح ربيب الملوك والرؤساء كما منحه القذافي جواز سفر ليبي يتنقل به بين البلدان يجالس الأمراء والمثقفين دون أن يغير شيئاً من ثوريته فيتبعه السياسيون بدل أن يتبع هو السياسيين .


أكرر ما قاله النقاد عنه باستخدام اللفظة القاسية مستخدما الصدمة في نهاية قصائده حتى تصل الى المفارقة المدهشة تجعل المتلقي لا يشعر بنهاية القصيدة . فعندما يعتلي المنصة كأنه رئيس الجمهورية يملك الصلاحيات الواسعة في أسقاط وتسقيط المواقف السلطوية والحكومية فهو الحاضر المسكوت عنه على مضض وقد يكون مغيّباً من العراق لعدة عقود لكن العرب يعرفونه جيداً ويقربونه بتودد.


لم يدرس النقد الأدبي نضوج شاعريته في الساحة الأدبية كما هو في نمو تجربته الفلسفية .
سفينته لم ترسو بعد في مراسي النقد ويصعب جرّ ها الى الشاطئ لثقل حمولتها لذا يصعب الإحاطة بأدبه أو حتى تفكيك الرمزية التي يتداولها بصورة لا يحسها المقياس العادي إلا المحارير عالية الجودة ربما كان الدليل على ذلك عندما وقع بعض المطربين والملحنين بورطة في ذلك العهد حيث بعد فترة من انتشار الأغنية يتم منع إذاعتها ويحرم الجمهور من سماعها إلا عن طريق الكاسيتات المنتشرة في ذلك الوقت كذلك عندما نغني قصائده أثناء السفرات الطلابية أيام الدراسة الجامعية فيها شيء من الحذر دون أن يسمعنا أحد الرفاق . فتوظيف المفردة الرمزية هي السياسة التي يتبعها أسلوب قصيدته ربما تكون غير محببه لدى النقاد والكتاب قد سُئل ذات مرة عن مفرداته البذيئة فأجاب أنه يعيش في عالم بذيء يحتم عليه أن يعكس الواقع السيء .لذا فالنواب لا يمكن ان يضعه أحد في زاوية واحدة فليس عدلاً أن نصفه بصفة واحدة بل يحمل صفات متعددة قلّت عند كثير من الشعراء العصر الحديث ، فالإلقاء الذي تتمتع به حنجرته تجعل القصيدة كأنها أغنية تتغلغل الأذان بنوتات موسيقية يطرب لها الإصغاء عبر الذهن . لم يكن أبداً أمتدادا لأي شاعر أو ظاهرة بل أصل الحداثوية في الشعر العراقي والعربي وتجد في دواوينه المزيج من الشعر والنثر والفلسفة والاسماء الريفية التي تقطن الأهوار وقرى الجنوب للعلم فهو الذي ترك الاستقراطية والغنى عند أهله في بغداد وعاش الفقر في السجون والبلدان فذاق الغربة بعيداً عن ذئبية الحزب الحاكم التي تجوب البلاد .


قد يكون سبب حضوري للأصبوحة هو اهتمامي الكبير بالنواب واعتبره معلمي الأول وكم مرة أحاول أن أقلد الجرأة والشجاعة التي تتسم به أشعاره . بالمناسبة سألت أحد المشاركين الذي يعرفه عائلته عن أخيه ( صباح ) كان صديقي أيام الدراسة الجامعية كنا نلتقي في كازينو شط العرب وثم السير على الأقدام إلى شارع ابو نواس ،كان أخوه يتحفظ عن ذكر أخبار مظفر النواب عندما كان في ألمانيا واريتريا .


شكراً لكل من ساهم في تذكيرنا بهذه القامة الأدبية الفريدة ومن حضر للاستماع . تحية لاتحاد أدباء البصرة .